logo


أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في منتدى ميكس آر تي | Mixrt، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .


  1. منتدى ميكس آر تي | Mixrt
  2. الأقسام العامة
  3. القصص و الروايات
  4. رواية وصية والد


اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 3 من 11 < 1 2 3 4 5 6 7 8 11 > الأخيرة



look/images/icons/i1.gif رواية وصية والد
  23-03-2022 03:37 مساءً   [13]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الرابع عشر

مازال مجد على جلسته شاردا في طيف أخيه الذي غادر، مذهولا من تصرفات شقيقه معه، وكذلك ريما والتي باتت تقلقه، لكن أكثر ماكان يشغله هو سبب بكاء ريما وعودتها باكرا إلى المنزل، فطوال الاثني عشر عاما التي عاشها مع ريما وأدهم خارجا لم يرهما في حالة التخبط تلك.

لم يفكر أكثر وهو ينتفض من مكانه متجها إلى محل ريما، سيتحدث مع إيمان صديقتها الجديدة، علها تخبره مالذي استدعى دخول ريما في هذه الحال، و تنقذه من الوقوع في تفكير عقيم.

جلس مجد في المطعم القريب من المحل برفقة إيمان- وقد كان يملي طلباتهما للنادل- بعد أن طلب منها موافاته هناك ليتحدثا، حيث أن ريما لم تغلق المحل بعد.
والحق يقال فإن مجد كان بحاجة إلى من يتحدث معه حول تصرفات ريما المريبة.
تحدثت إيمان بتساؤل قلق بعد رحيل النادل: مالأمر مجد؟ هل ريما بخير؟
تبسم مجد بخفة مجيبا: لا تقلقي إيمان ريما بخير.
عبست تعابيره مضيفا: الحقيقة انا بحاجة إلى شخص ما لأحدثه.

ظهر الاهتمام جليا على قسماتها وهي تشير له بالإيجاب وتحثه على المتابعة، لكن مجد توقف لثانية يفكر، هل يصح أن يشارك غريبا في أسرار أخيه وزوجه؟
لكن إيمان ليست غريبة! فهو يعرف صداقتها مع ريما مع أنها مستحدثة لكن ريما مرتاحة معها وهذا مايهم، وهذا ما دفعه للقدوم إلى هنا ومقابلتها.
تابع حديثه قائلا: الحقيقة لا أعلم السبب ولكن، استشعر تبدل معاملة ريما معي منذ مدة.

تنفس بعمق ثم أضاف مبررا لجوءه إليها: انا أعتذر إيمان إن كنت ازعجك، لكنك صديقة ريما الوحيدة وكذلك كنت معها في المحل منذ مدة، وقد تساعدينني في معرفة سبب تغيرها.
زوت مابين حاجبيها بقلق فسألته: مالذي تقصده مجد؟
مط شفتيه بتفكير قبل أن يتحدث بما خطر على باله: لا أعرف تماما، لكن ريما باتت تتجاهلني وتغيرت معاملتها معي منذ حفل خطبتي.

زمت إيمان فمها بتفكير كأنها تحلل حديثه فيما أضاف مجد بآسى: أنا لم أقترف ذنبا لتحاسبني عليه بتغيرها، لطالما كانت لي الآم والصديقة.
أجفلت إيمان بخفة فسألته كمن تذكر شيئا: هل لي أن أسألك أمرا مجد؟ لم ريما وأدهم لم ينجبا؟
تجعد جبينه باستغراب بينما تابعت فكرتها: أعني أنهما متزوجان منذ وقت طويل صحيح؟ فلماذا إذالم ينجبا أطفالا؟

رمش مجد قبل أن يجيبها بجدية رغم استغرابه أنها تسأله هو هذا السؤال: أذكر أنني سألتهما هذا السؤال منذ مدة طويلة، أخبرتني ريما يومها أنها تعاني مشكلة ما تمنعها من الإنجاب، فاكتفيا بوجودي في حياتهما.
أعادت رأسها للخلف متسائلة باستنكار: ألم تذهب إلى طبيب ما للكشف عن حالتها؟

همس مجد و هو يشعر بالضياع من أسئلتها- المحرجة في بعضها- كأنها توجهه إلى أمر ما بعينه: لا لم تذهب، أذكر أن الطبيب كان قد أخبرها أن مشكلتها لا حل لها.
شردت إيمان بعيدا وهي تستذكر ماحصل بين ريما وابنة أيمن الصغيرة، بينما كان مجد يراقبها فاستراب من صمتها الذي بدى بلا نهاية، فسألها بشك: هل هناك ماتودين إخباري به ايمان؟

تطلعت إليه وهي تبتسم ببساطة، وقد ظنت أنها اهتدت إلى التحليل المنطقي: ريما تفتقد شعور الأمومة مجد، هذا كل ما في الأمر.
لم يفهم مقصدها، وقبل أن يسألها أردفت بتبرير: لقد رأيتها هذا الصباح كيف تعاملت مع ابنة جار لي بينما كانت تنتظرني، ومنذ أن جئنا إلى المحل لم تتوقف دموعها حتى أخبرتني أنها متعبة وعادت إلى المنزل.
كتفت يديها على الطاولة أمامها مضيفة: أعتقد أن السبب هو حنينها لأن تصبح أما.

شرد مجد في حديثها، بدى أنه التحليل الأقرب للمنطق، خاصة بعد أن استذكر تبدل أدهم هو الآخر معه، تطلع إلى إيمان التي تحدثت: لقد تقدم الطب كثيرا الآن، أعتقد أنه يجب على ريما ان تحاول مجددا مع طبيب جديد، عله يمدها ببعض الأمل في حالتها.
صمت لثوان كأنه يفكر، ثم أعاد نظره إليها قائلا بحرج طفيف: ربما كلامك منطقي، لكن من يستطيع إقناعها؟ فأنا لايمكنني التحدث معها حول الأمر لربما احرجتها!

أسندت ظهرها إلى الخلف، حركت رأسها وهي تبتسم بمكر، ثم أخبرته بنبرة ذات مغزى ناظرة إلى نقطة ما خلفه: دع الأمر لي.

قضى أيمن النهار بطوله جالسا قرب ابنته الصغيرة، يتآكله الندم على مااقترفت يداه في حقها، تطلع إلى جسدها الصغير المسجى أمامه على السرير، يدها الصغيرة وأنبوب رفيع متصل بها، أمسك بكفها الأخرى ليقبلها بضعف وهو يطالعها بحزن، بندم، بجزع.

دلفت شقيقته إيناس حاملة في يدها طبقا فيه بعض الطعام المطهو حديثا، وضعت الطبق أمامه ناظرة إليه بشفقة، لم تعرف بعد ماحدث بالضبط ليصل شقيقها مع ابنته إلى هذه الحال، لم يكن أيمن في حالة تسمح لها بسؤاله، كما أن المربية لم تنفعها كثيرا، فقط أخبرتها أنه عاد من عمله ليجد ابنته تتحدث مع سيدة ما، واستشاط غضبا بعدها.

رحلت أخيرا بعد أن آيست من أن يتناول شقيقها شيئا ليسد به رمقه، إلى جانب رفضه مبيتها بجوار ريما عله يرتاح هو الاخر، متعللا بأنها مسؤوليته وحده.

عاد أدهم إلى المنزل مساء، لكنه لم يجد مجد فعلم أنه غادر ليشرف على استلام الشحنة التي سبق وأن كلفه أيمن بها.
زفر باختناق فقد كان يريد أن يحادثه بشأن صراخه عليه سابقا.
كانت ريما جالسة في سريرها واضعة كتابا ما في حجرها لتقرأه، لكنها فعليا لم تقرأ منه حرفا ولم تتطلع إلى كلماته أساسا، بل كانت شاردة أمامها، تعبث بإحدى الصفحات تمرر إصبعها يمينا ويسارا عليها.

شغل بالها التفكير في أمر أدهم و أماليا، آلمتها رؤيتها لأيمن لدرجة باتت تفكر في قلب تلك المسكينة أيضا، كانت تفكر في طريقة لتجمع شملهما، لكن الأهم الآن هو إقناع أدهم بأن يعترف لها بالحقيقة وهي على يقين أن أماليا ستصدقه كونها تحبه وتوافق على الزواج منه.
ربما هي لاتعرف ردة فعل مجد كيف ستكون لكن بما أنه قد شفي من علته النفسيه- حسب تقرير الطبيب- فلا تظن أنه سيمانع زواج أدهم وأماليا.

شدت ظهرها وفردت كتفيها عندما خطرت لها فكرة قد تبدو مقنعة لمجد في حال رفضه.
قطع تفكيرها صوت أدهم يستأذن للدخول، أدخل رأسه من شق الباب مبتسما ببساطة هاتفا: مساء الخير؟
بادلته بابتسامة مقتضبة دون إجابة، دلف ليجلس بقربها على السرير، تفرس في وجهها لحظة ثم امتدت يده إلى الكتاب المسنود على حجرها متسائلا في محاولة منه لخلق حديث معها لاعتقاده بأنها مازالت حزينة: مالذي تقرأينه في هذا الوقت؟

وقبل أن تصل يده إلى الكتاب أزاحته ريما برفق من أمامه لتضعه على الطاولة قربها، تعجب أدهم من فعلتها، لكن عجبه زال فور أن تحدثت بنبرة هادئة: أريد أن أحدثك في أمر ما أدهم.
زوى مابين حاجبيه مشيرا لها بالموافقة: حسنا ريما اخبريني، مالأمر؟
تنفست بعمق ثم نطقت بثبات؛ يجب أن تصارح أماليا بالحقيقة أدهم.
قلب عينيه زافرا بضيق وهو يشيح بوجهه عنها، عبست تعابيره ليجيبها بجمود: سبق وأن تحدثنا في هذا الأمر ريما.

أصرت ريما على قرارها قائلة بعناد: بلى تحدثنا، لكنك لم توافق بعد.
انتفض من مكانه واقفا ليضع يديه في جيبي بنطاله متحدثا بآسى حزين: لا شيء لأوافق عليه، فأماليا لن تقبل.
أمالت رأسها للجانب لتجيبه ببسمة صغيرة وقد استشعرت ميله لحديثها: بل ستوافق لأنها تحبك، وإن أخبرتها الحقيقة كاملة عن زواجنا فلن يبقى هناك أي حجة للرفض.

سكت لثوان كأنه يحسب احتمالات تحقق ماقالته ريما، زفر بضيق عندما لاح في خياله ردة فعل مجد، عاد اليأس ليسيطر عليه وهو يخبرها ناظرا لها بقلة حيلة: ومجد؟ كيف ستكون ردة فعله على زواجي لو تم؟
اتسعت ابتسامتها مرددة بثقة: مجد سيوافق من دون تردد أؤكد لك.
استراب من ثقتها المفرطة، فتوارد إلى ذهنه أنها أخبرت مجد بكل شيء، اقترب منها بعينين متسعتين والذهول واضح على محياه هامسا بخفوت: هل أخبرت مجد بالحقيقة؟

قهقهت بخفة وهي تحرك رأسها للجانبين بيأس من سذاجته وأردفت: بالطبع لا، لم أجن بعد.
ناظرها بشك: إذا؟
أشارت له بالاقتراب ليجلس قربها ففعل، كتفت يديها في حجرها وهي ماتزال على جلستها في السرير لتقول بهدوئها المعتاد: اسمع أدهم، أتذكر منذ سبع سنوات تقريبا، عندما سألنا مجد لماذا لم ننجب أطفالا؟

شرد ذهنه في تلك الذكرى، عندما فاجأهما مجد بهذا السؤال وكم أحرجهما يومها، لتخبره ريما بكذبة اخترعتها سريعا مفادها بأنها لا تستطيع الإنجاب لعلة ما بها ليس لها دواء، وأنهما اكتفيا به ولدا.
عاد من شروده السريع على حديث ريما التي استطردت: سنخبره بأنك ترغب بالأطفال الذين لم أستطع انا أن أمنحك إياهم، وأنني موافقة على زواجك لأجل الأطفال.

قلب حديثها في ذهنه ثم سألها باهتمام باد في قسماته: لماذا أماليا تحديدا؟ ألن يستغرب مجد الأمر واختياري لها بالذات؟
زمت فمها بتفكير قبل أن تنطق رافعة كتفيها بلا مبالاة: لأنها ببساطة شقيقة نور، ونعتقد أنها ستكون بمثل أخلاقها ولطيفة مثلها، وهكذا لن تحصل أية مشاكل..

ركز النظر في ملامحها الجادة، لكن بدى ماتقوله ضرب من الجنون، حرك رأسه للجانبين بإنكار: لا، لن تنطلي تلك الخدعة على مجد، فهو ذكي للغاية، ثم ماذا لو انتكس مجددا؟
أجابته فورا دون تردد: لا تقلق عليه فقد شفي تماما، ألا تذكر تقرير الطبيب؟

التفت للجانب ليفكر في جدوى فكرتها، رغم شوقه لأن يجتمع بمحبوبته، ولكن ظهرت أمامه عقبة جديدة، يخشى من ردة فعل أماليا هذه المرة لو علمت الحقيقة فعلا، حينها سيظهر هو كالجبان في نظرها عندما هرب دون أن يخبرها بالأسباب، ربما هذا أسوء بكثير من نظرتها إليه الآن كخائن.
نفخ بيأس ملتفتا صوبها ليردد: لن ينجح الأمر ريما، أخشى أن الحقيقة ستجرح كبرياء أماليا فقط، ولن توافق على أية حال.

تهدل كتفاها بذهول، حقا لم تعتقد أن أدهم سيكون يائسا إلى هذه الدرجة، نفخت بغيظ من عناده، راقبته وهو يتجه لينام في غرفة الملابس، ثم صاحت خلفه بهدوء غريب، تجمدت يده على مقبض الباب دون فتحه عندما سمع كلماتها: الحقيقة مرة كحبة الدواء أدهم، يلزمها الوقت لابتلاعها، لكنها ستشفى في النهاية.
تفكر في كلماتها للحظات قبل أن يدلف إلى الداخل دون أن ينظر إليها.

اتسعت ابتسامتها لدخوله دون أن يجادلها، إذا فهو يفكر وسيقتنع بالطبع، أراحت ظهرها إلى الخلف دون أن تخبو ابتسامتها، وهي سعيدة لقرب التقاء قلبين.

قد يبدو مافعلته ريما غير مقنع أبدا، لكنها قاست الأمر عليها هي، لربما بإمكانها هي أن تحتمل ألم الفراق كما فعلت طوال السنين الماضية، فهي لن تقابل أيمن كثيرا على أية حال وربما لن تفعل أبدا، لكن أماليا ستقابل أدهم كثيرا شاءت أم أبت، أسعدتها حقا فكرة أن تجمع قلبين معذبين، عل خافقها الملتاع يرتاح قليلا.

دخلت أماليا بسيارتها إلى مكانها المخصص في مرآب المستشفى، ترجلت من السيارة لكنها شهقت بهلع عندما ظهر أدهم أمامها من العدم، عادت خطوة للخلف حتى استجمعت شتاتها، ناظرته بحدة وقد ثارت أمواجها: ما بالك أنت؟ كيف تظهر أمامي بهذه الطريقة؟

ابتسم ببلاهة وهو يستشعر غضبها منه، لطالما كان الأمر يسعده قبلا، زفرت بضيق وأغمضت عينيها لثانية، فتحتها من جديد محاولة تجاوزه، مشت عدة خطوات قبل أن يوقفها سؤاله: لماذا هربت ليلة الحفل؟
عقدت حاجبيها بريبة من سؤاله، سرعان ماأسعفها عقلها بإجابة خبيثة ربما أراد أن يعرفها بزوجته، ضغطت على شفتيها بقوة قبل أن تجيب بنبرة ثابتة: لم أهرب، لقد كان لدي عمل.

التفت ليواجه ظهرها وشعرها الحريري الطويل، ثم تحدث بابتسامة صغيرة: هذه حجة ممزقة، ألديك سواها؟
زفرت باختناق تحاول استدعاء ثباتها، التفتت لتقابله مجيبة بنبرة تعمدت جعلها مهينة: وهل هناك مايجبرني على اخبارك؟
طالعته من أعلى لأسفل وبالعكس مضيفة بتهكم: وعلى أية حال مالذي تفعله هنا؟ حسب علمي فهذا مرآب خاص للموظفين في المشفى وليس مشاعا للعامة؟

هل قالت عامة؟ هل نحن في العصور الوسطى وطبقة النبلاء والعبيد؟ ابتسم على تفكيره الأبله فاعتقدت أنه يسخر منها، استشاطت غضبا وصرت على أسنانها بغيظ، رمقته بنظرة سريعة قبل أن تستدير داخلة للمشفى، انتبه لهروبها وأسبابه فتبعها مهرولا: انتظري أماليا.
وقفت لتلتفت إليه بحدة، رمقته بنظرة تحذيرية ففطن لمرادها، أحنى رأسه لثانية ثم رفعه متحدثا: اسمعي أمال...

تدارك نفسه مردفا: دكتورة أماليا، أريد أن أحدثك في أمر هام، ولا يحتمل التأجيل أكثر.
استرابت من كلماته فيما أضاف هو قبل أن تعلق: أرجوك، لن يأخذ منك سوى دقائق.
ضغطت على شفتيها بتفكير ثم اردفت بنبرةذات مغزى: لكن لدي عمل الآن.
تبسم باتساع معلقا: لا يهم، سأنتظرك الساعة الرابعة
في الحديقة قرب العيادة.
اقترب منها أكثر مضيفا بنبرة خالطت بين الرجاء والأمر: لا تتأخري، وأتمنى أن تحضري فعلا.

رغم غرابة أن يكون على علم بموقع عيادتها واسترابتها من طلبه، لكن فضولها أجبرها على القبول فأشارت له موافقة، اتسعت ابتسامته اكثر وهو يتمتم: شكرا.
خرج من المرآب بخطوات سريعة، فيما ظلت هي تطالع خياله بحزن، تنهدت بتعب ثم استدارت لتدلف إلى المشفى، وفي قلبها نور ونار.

هل سبق وأن أجبرك أحدهم على تنفيذ مراده دون أن تتمكن من الرفض، حتى يخيل إليك بأنك قد نومت مغناطيسيا؟
كان هذا حال ريما بالضبط، لا تعرف كيف أو لماذا، لكنها جالسة الآن في سيارتها أمام عيادة طبيب ما، حقا لا تعلم كيف تمكنت من إقناعها، والأغرب أنها طاوعتها، ليس لأنها لا تستطيع الرفض بل لأنها لا تجيد فن كسر الخواطر، هي ليست من النوع القاسي ببساطة.

لكن إيمان بدورها ليست من النوع الذي يستسلم بسهولة، رغم معرفتها الحديثة بريما لكنها اعتبرتها أكثر من مجرد مديرة في العمل والأخرى لم تمانع، فبعد أن أخبرتها إيمان بما دار بينها وبين مجد، صدمتها بأنها قد حجزت لها موعدا لدى طبيبة نسائية تعرفها، تفهمت ريما الأمر بأنه مشاعر صادقة من إيمان.
زفرت من أنفها وهي تخبر إيمان: هذا خطأ كبير.

التفتت صوبها مضيفة علها تعدل عن الفكرة: إن علم أدهم أنني ذهبت إلى طبيب ما دون علمه سيغضب كثيرا.
ابتسمت الأخرى لتجيبها: لن يعرف صدقيني، ثم إنها طبيبة وليس طبيبا!
حركت رأسها بقلة حيلة: نعم ولكن...
قاطعتها بإصرار: من دون لكن، هيا لننزل..

ترجلت إيمان دون سماع ردها، أغمضت ريما عينيها زافرة باختناق تحاول استدعاء ثباتها، لا تستطيع لومها فإيمان لا تعرف حقيقة زواجها، وفعلت هذا من باب الصداقة الحقيقية، ترجلت من السيارة لترمق إيمان بنظرة رجاء أخيرة، لكن الأخرى لم تفهم نظرتها، بل سحبتها من يدها صاعدة إلى أعلى.

من فرط توترها وجزعها لم تلتفت حولها أو حتى تقرأ الاسم المدون على اللافتة الخشبية ذات اللون البني، ما كان يشغل بالها أكثر هو كيف تهرب قبل الدخول إلى تلك الطبيبة التي لا تعرفها أصلا، ولا تخاطر بكشف سرها.

كانت العيادة فارغة تقريبا، جلست ريما على كرسي الانتظار حيث أشارت لها إيمان، ريثما تحادث الفتاة الجالسة على المكتب، تمكن خوفها منها ومن وضعها الآن، طالعت تلك السيدة الجالسة بانتظار دورها، شعرت بأنها لا تشبهها قط، خطرت على ذهنها فكرة تنقذها من هذه المصيبة.
استلت هاتفها لتبعث برسالة إلى أدهم قبل عودة رفيقتها: اتصل بي، رجاء.

لكن أدهم لم يجبها لانشغاله في اجتماع هام، زفرت بجزع وهي تشاهد إيمان تتقدم منها وعلى وجهها ابتسامة عريضة، جلست بجانبها لتضرب على قدمها برفق: أمامنا دور واحد فقط.
ازدردت ريقها بوجل وهي تعلق برجاء: إنني خائفة ايمان، دعينا نرحل أرجوك.
وقفت مغادرة لولا يد إيمان التي امتدت قابضة على ذراعها لتعيدها بجانبها مردفة كأنها تحادث صديقة تعرفها منذ سنين: مابالك جبانة هكذا ريما؟

رمشت عيناها من الصفة التي أطلقتها عليها، فيما أضافت الأخرى غير عابئة بملامح الصدمة على وجهها: اجلسي وانتظري دورك، لا تعلمين كم تعبت حتى حصلت على موعد قريب.
عقبت ريما بمزيج من السخرية والجد: عوض الله تعبك عزيزتي إيمان!
طالعتها المعنية ببسمة بلهاء، تزامنا مع خروج الطبيبة مع إحدى المريضات، وقفت أماليا لثوان تحادث المريضة قبل أن تودعها ببسمة صافية.
انتفضت إيمان من مكانها صائحة بحماس: حضرة الطبيبة.

استدارت أماليا صوبها بجبين مقطب حالما رأتها متسائلة باستغراب: إيمان، مالأمر؟
ضيقت عينيها تسألها بجدية: لا تخبريني بأنك حامل؟ فابنتك مازالت صغيرة!
قهقهت إيمان بمرح رافعة يديها: لا حضرة الطبيبة، اطمئني فلست حاملا.
تبسمت بارتياح فيما أخفضت إيمان صوتها مضيفة وهي تشير لها بعينيها صوب ريما: لقد أحضرت صديقتي تريد الكشف عندك، لديها مشكلة في الإنجاب.

نظرت أماليا حيث أشارت لها إيمان فتلاقى بحريها مع عسل ريما، اختفت بسمتها وهي تشاهد الأخرى تومئ لها ببسمة مقتضبة، حملقت فيها بذهول مبرر لدرجة ظنت معها أن فكها قد لامس الأرض من فرط المفاجأة.
لحظة!
لحظة واحدة فقط!
بشرود سريع ربطت الأحداث ببعضها، أدهم يطلب مقابلتها اليوم على عجل لأمر لا يحتمل التأجيل، والآن ترى ريما قابعة أمامها بانتظار أن تكشف عليها إذا...

الوغد الحقير؟! يريدها هي أن تعالج زوجته لينجب منها أطفالا!؟
وهل في الدنيا انحطاط أكثر من هذا الموقف؟!


look/images/icons/i1.gif رواية وصية والد
  23-03-2022 03:37 مساءً   [14]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الخامس عشر

شعرت بالدوار يباغتها فجأة وهي ترى ريما والتي تحاشت رؤيتها طوال الأيام الماضية جالسة أمامها، لا تعلم أشعرت بالإهانة؟ أو ربما هو شعور آخر لا تعرف ماهيته؟
أيا كان مسمى ماتشعر به فهو إحساس غير حميد بالمرة، استغربت إيمان شرودها فسألتها: مابك حضرة الطبيبة؟ هل أنت بخير؟
اغتصبت على وجهها شبح ابتسامة لتهمس لها بثبات مهتز وصوت مبحوح: نعم، نعم أنا بخير.
أضافت الأخرى بحماس طفيف: سيحين دورنا بعد قليل.

أشارت لها باقتضاب ثم هربت عائدة من حيث خرجت، دلفت إلى الحمام الملحق وهي تشعر بلهيب يكوي مقلتيها، أيعقل أن يفعل بها هذا؟ لماذا؟ مالذنب الذي اقترفته بحقه لتستحق منه هذه المفاجآت؟ ألم يكتفي عندما تركها كالمعلقة بين الجحيم والنعيم؟
انتبهت على صوت جلبة خفيفة في الخارج فعرفت أن المريضة التالية قد دخلت، غسلت وجهها لتخرج وهي فعلا لا تعرف كيف ستتعامل مع ريما بعد قليل.

استفاقت ريما الصغيرة هذا الصباح، رغم سعادة أيمن العامرة لكنها تبقى سعادة منقوصة، فابنته لم تحادثه أبدا كأنها تعاقبه، شعرت إيناس بجفاء ريما لوالدها فازداد شعورها بغرابة تصرفاتهما.
حضرت طبق الصغيرة المفضل، الأرز مع اللبن، دلفت إلى غرفتها ورفعت الطبق قائلة بحبور: احزروا لمن هذا الطبق؟
تبسمت ريما ومايزال التعب واضحا عليها، أشارت إيناس لشقيقها فانتفض متحدثا: اعطني الطبق، أنا سأطعمها.

أخذ الطبق من يدي أخته واقترب من ابنته ليطعمها، إلا أنها أبت أن تأكل من يده وأشاحت بوجهها للجانب الآخر، بهتت ملامحه بحزن جلي، فرمى الملعقة في الطبق ليعيده إلى شقيقته، ليخرج بعدها وهو يشعر بالاختناق، مستعد لأن يفديها بروحه على أن تعامله بهذه الطريقة.

مر بعض الوقت حتى دخلت إيناس لتخبره باضطرارها للعودة إلى منزلها، عاد إلى غرفة ابنته فوجدها تتخذ وضعية الجنين تريد النوم، اقترب منها ليغطيها فرأى عبراتها تسري على خديها الممتلئين، آلمه منظرها فأدارها إليه عنوة، احتضنها بقوة وهو يهمس لها بندم: أسف حبيبتي، أعتذر إليك لم أقصد إيذاءك، سامحي بابا صغيرتي.

أخرجت رأسها من بين أحضانه لتتطلع إليه بمآقيها الخضراوين، ارتجف فكها السفلي وانتفض جسدها بخفة من حرقة البكاء، همست بشهقة بكائها ولهجتها العربية المتكسرة: لقد أخفتني دادي.
قبل مقدمة رأسها معيدا اعتذاره على مسامعها، فأجابت الصغيرة: هل تريد مني أن اسامحك دادي؟
تبسم على طريقتها المحتالة، فأردف معتقدا أنها ستطلب كعادتها لعبة جديدة أو فستان جميل، : أخبريني ماذا تريدين حبيبتي؟

سكتت ريما لثوان تطالع وجه والدها بعينيها الدامعة ووجنتيها المبتلة، ثم أخبرته بآخر شيء قد يفكر فيه في حياته: أريد ريما.

لم يكن طلبا عابرا أو وليد لحظته، بل لأن ريما الصغيرة قد وجدت من سميتها مشاعر واحاسيس صادقة التمستها من لقاء وحيد، وللشبه الكبير بينها وبين زوجة أيمن المتوفية فقد رأت فيها أمها التي تفتقدها، رغم معاملة إيناس الكيسة معها لكن للأخرى طريقة مختلفة، أكثر دفئا وحنانا أشعرت الصغيرة بيتمها خاصة بعد صراخ أيمن فيها، لقد تعلقت بشخصها العطوف.

استند بيده على سور الشرفة الخشبي، زفر باختناق كلما تذكر كلمات ابنته عن ريما، مافهمه منها أنها عرفتها صباح الأمس فقط، فأنى لها كل هذا التعلق بامرأة غريبة؟
نفخ باستياء شديد كيف سيجدها؟ رغم كل سنوات البعد لكنه لم يتجرأ حتى لمرة واحدة أن يسأل عنها؟ فكيف به الآن أن يحادثها ليطلب إليها طلبا مماثلا؟ أن تأتي إلى منزله وترى ابنته؟ ماهذه المعضلة؟

ألم يقسم أن يمزق صفحتها من كتاب حياته للأبد؟ حسنا هو لم يستطع تنفيذ قسمه، لا يلبث إلا قليلا ليعود إلى تلك الصفحة من جديد، خاصة بوجود ابنته والتي سماها باسمها أمامه دائما، لا ينكر حبها الساكن بين دفات خافقه والاشتياق بين جنبات ذهنه، لكنه لم يقتنع بكون الأمر صدفة، ربما هي قد علمت بعودته إلى البلاد فقررت الظهور أمامه مجددا، لتلعب هذه المرة على أوتار ابنته.

ضرب على السور بقبضته، بغض النظر عن كون الأمر صدفة أم لا، لكنه مستعد ان يدوس على كبريائه لأجل ابنته، وعليها أن توافق وتحضر معه لرؤية ريما شاءت أم أبت، حتى لو اضطر أن يحادث زوجها الذي لم يعرفه أبدا، عليه أولا أن يعرف مكانها، سحب هاتفه ليطلب رقم مربية ابنته، علها تعرف كيف قد يصل إليها.

خرج أدهم من اجتماعه بعد فترة ليست بطويلة، ليتفقد هاتفه المغلق منذ بداية الاجتماع، تفاجئ برسالة من ريما تحمل طلبها الغريب.
كانت شاردة في الساعة الجدارية، تراقب عقاربها وهي تلتهم الوقت بسرعة، كم ندمت لاستسلامها الأخرق لإيمان، لكن ماذا بيدها أن تفعل أمام إلحاحات إيمان المتوالية وطريقتها الرهيبة في الإقناع؟ خاصة بعدما عرفت أن لمجد يد في الأمر؟

كلما سمعت صوت فتح باب أو إغلاقه ظنت أن دورها قد حان فينتفض قلبها بين ضلوعها فزعا، لا تريد لأي كان أن يكتشف أمرها.
انتفضت بخفة عندما سمعت رنين هاتفها، تبدلت ملامحها في لحظة وهي تخرج الهاتف بسرعة من حقيبتها، تنفست براحة عندما رأت رقم أدهم فوجهت الهاتف نحو إيمان التي كانت مشغولة بالثرثرة مع شقيقتها على تطبيق الرسائل القصيرة، ثم تحدثت لتجذب انتباهها: انظري ايمان، هذا أدهم.

استقامت من مكانها لتبتعد عن أذني تلك الفضولية لتفتح الهاتف قائلة بنبرة مرتجفة: نعم أدهم؟
جاءها سؤاله القلق: ماالأمر ريما؟ لقد قرأت رسالتك.
ردت بصوت عال نسبيا لتسمعها إيمان ولا يفهمها أدهم: نعم عزيزي بالطبع، لا لا أنا في المحل أكيد.
ثنى حاجبيه بريبة متسائلا: ريما هل حدث أمر ما؟ لأنني لم أفهم شيئا؟

تصنعت ضحكة مرتجفة قائلة: لا عزيزي بالطبع سأقبل دعوتك على الغداء، أها، تريدني أن أوافيك إلى المنزل خلال نصف ساعة!

رفعت رأسها لتتأكد من سماع إيمان لحديثها، ختمت المكالمة التي لم يفهم منها أدهم شيئا، طالع الهاتف بيده وصوت الصفير معلنا عن إغلاق الطرف الآخر باستغراب، رفع كتفيه بلا مبالاة ثم ناظر ساعته الذهبية بمزيج من التوتر والترقب، لا يعلم بالفعل متى ستنهي عملها في العيادة، لكنه قرر الانتهاء من أعماله ثم انتظارها في الحديقة القريبة من عيادتها، فرك كفيه ببعضهما بحماس طفيف لقرب التقاء حبيبته الوحيدة.

اقتربت إيمان منها لتسألها عن فحوى المكالمة، رغم معرفتها المسبقة بالمضمون، لم تكن ريما بحاجة اصطناع التوتر والقلق لأنها فعلا كانت كذلك، تحدثت بلبكة: أدهم يدعوني إلى الغداء ايمان، ويريدني أن أذهب للمنزل حالا.
زوت مابين حاجبيها فتسائلت بقلق: و موعد الطبيبة؟
جذبتها من يدها عنوة لتخرج قائلة بأنفاس متلاحقة: فلنؤجل الأمر إلى يوم آخر، لن نتمكن من التأخر على أدهم.

استوقفتها إيمان متحدثة رغم عدم اقتناعها: حسنا حسنا، فقط انتظري لأخبر الطبيبة.
سحبتها بقوة أكثر مقاطعة: لا وقت لهذا إيمان أرجوك فلنخرج.
نزلت الدرجات بسرعة دون الالتفات خلفها، لا تصدق أنها نجت هذه المرة، لكن ما يقلقها أكثر هو هل هذا سيوقف إيمان ومجد؟
لا تظن هذا!

ودعت المريضة التي كانت معها، شبكت يديها على طاولتها تحاول السيطرة على انفعالاتها وتنفست بعمق مرات عديدة، قبل أن تضغط زرا ما على مكتبها ليضيء عند مساعدتها في الخارج، دلفت إليها الأخيرة لتحدثها أماليا بجمود دون النظر إليها: أخبري المريضة التالية لتدخل.
أخبرتها مساعدتها بلباقة: لقد رحلت صاحبة الموعد الأخير حضرة الطبيبة.
التفتت صوبها بغتة و تلاحم حاجبيها باستغراب، ثم تسائلت: هل أنتي متأكدة؟

أشارت الأخرى بإيجاب مضيفة: نعم، لقد جاء اتصال لاحداهما فخرجتا من فورهما، ولم تبلغني إحداهن بأنها قد تعود.
شردت في السبب الذي قد يجعل ريما وإيمان ترحلان على عجل، مالذي حدث يا ترى؟
لم تهتم كثيرا، المهم الآن أنها تخلصت من لقاء ريما، مؤقتا ربما!

أخبرت مساعدتها بأن تغلق العيادة وتغادر، بدلت معطفها الطبي لتعاود ارتداء ملابسها التي سبق وأن حضرت بها، وضعت يديها في جيبي معطفها الشتوي ذو اللون الأشقر الشاحب، لفت وشاحا من الصوف حول رقبتها لتحمل حقيبتها بإهمال على معصمها، سارت بعدم انتباه وقبل أن تستقل سيارتها وجدت قدميها تأخذانها جبرا نحو الحديقة القريبة، جلست على أحد المقاعد الخشبية لتنظر أمامها بشرود، سمحت لعبراتها أخيرا بالتحرر ناقمة على نفسها، كيف سمحت لنفسها بأن تحب شخصا مثله؟ والأنكى من هذا أنها ماتزال عالقة بهواه!، إذا فهي تستحق هذا الشعور المهين، والذي لم تجد له إجابة بعد.

اصطفت سيارة أدهم بالقرب من الرصيف، نزل ليدلف إلى الحديقة بدوره لينتظرها يحدوه الأمل بأن تحضر، لكنه تفاجئ عندما وجدها تنتظره هي، سيل من المشاعر المختلطة بين الغبطة والسعادة غزت عروقه وابتسم رغما عنه، عندما رآها تجلس على مقعد خشبي بانتظاره، تقدم نحوها حتى بات على مقربة متها، تأكد من هويتها فاتسعت ابتسامته السعيدة.

تقدم أكثر ليجلس بجانبها، لكن انقباضة قلبه غافلته حالما رأى عبراتها تترقق بهدوء على وجنتها كأنها أحجار كريمة مصطفة بشكل عقد لؤلؤي جذاب.
شعرت بجلوسه لكنها لم تتحرك قيد أنملة، بل تحدثت بشرود: مؤلم جدا، عندما تجد نفسك بانتظار من لا يأتي، والأكثر ألما عندما يعلم أنه نقطة ضعفك، فهو يستغل هذا ليكسرك أكثر.
ثنى حاجبيه بعدم فهم لمقصدها فتسائل بقلق واضح: مالذي تقصدينه أماليا؟ ولم تبكين؟

ارتجف فكها السفلي قبل أن تنطق بحرقة: لأنني لا أعلم مالذنب الذي اقترفته في حياتي ليرميني الله في محرقة الحب، مع أكثر البشر انحطاطا.
زادت عقدة حاجبيه ليتسائل وقد بدى على وشك فقدان أعصابه: مالذي تتحدثين عنه؟ أنا لا أفهمك؟
التفتت إليه مجيبة بانفعال: ريما كانت في عيادتي اليوم.
قطب جبينه بعدم استيعاب فيما تابعت هي بنشيج موضحة: لقد جاءت مع إحدى صديقاتها لتتعالج لدي لتنجبا الأطفال.!

ألجمته الصدمة دون فهم متأملا الخطوط الحمراء داخل عينيها الملتهبة، يستحيل أن تفعل ريما أمرا مماثلا، لكن من الواضح أن أماليا تعرفها جيدا أي أن الأمر يتعدى كونه خطأ أو استشباه بالشكل، بلل شفتيه محاولا الحديث: أماليا انا، لا شك أن هناك خطأ ما..
قاطعته بما يشبه الصراخ: خطأ ماذا أدهم؟ أخبرني؟ أليس هذا ماكنت تريده مني وطلبت أن تراني لأجله؟
استنكر اتهامها المجحف له، كيف لها أن تعتقد به السوء؟

هب ليدافع عن نفسه فقال من بين أسنانه المتلاحمة: لا أماليا، يبدو أنك قد فهمت كلامي بشكل خاطئ...
قاطع حديثه عندما أشاحت بوجهها عنه، اعتصرت حدقتيها قبل أن تفتحها وتتنفس بعمق، عضت شفتها السفلى في محاولة لاستجماع نفسها.
أخذ نفسا عميقا زفره ببطء محاولا الحفاظ على أعصابه، كاد أن يبرر لها ما أراده منها حقا، لكنها وقفت مقابله لتقاطعه قبل أن يبدأ: لا يهمني معرفة أكثر مما عرفت، يكفي أدهم.

حملق فيها مدهوشا، لتزيد لهيب دهشته عندما أردفت: أنا لا أستطيع أن فعل ما ستطلبه مني، لذا اخبر ريما بأن تذهب إلى طبيبة أخرى.
هوت عبرتها لتسقط على كفه المسنود في حجره، أخفض رأسه ليطالع تلك الألماسة النقية، أعاده إليها عندما أضافت بغصة فؤاد أرهقه الاشتياق والفراق: أرجوك أدهم، لن أستطيع.

اهتزت ملامحه كلها، خنقته العبرة مطالعا خيالها المغادر، تابعها وهي تهرب منه كأنما تهرب من قدرها واضعة يدها على فمها لتخفي صوت بكائها الذي تعالى رغما عنها، أحنى هامته ليطالع تلك الدمعة التي سقطت على كفه، لمسها بإبهامه لتسقط أخرى مشابهة لكنها من عينه هو، اعتصر كفه وهو يستشعر اليوم خسارة أعظم من خسارتها سابقا، يبدو أن القدر يعانده ليخبره بأنه سيبقى في عذابه أبد الآبدين!

حقا لاتصدق كيف هربت من إيمان لتتركها في المحل مع موظفة أخرى، ثم غادرت متعذرة بخدعتها، لم تخاطر بالذهاب إلى المشغل لتلهي نفسها فاختارت العودة إلى المنزل، لم يحضر أيا من مجد او أدهم إلى الغداء، فصعدت لترتاح في غرفتها ففي الغد يوم حافل.

عاد إلى منزله مع هبوط ظلام الليل المشابه لظلام روحه، لا يريد أن يظلم ريما فهو أكثرهم علما بنقاء سريرتها، لن تخطط للذهاب إلى أماليا ومن الواضح أن الأمر برمته خطأ غير مقصود، لكنه خطأ كلفه الكثير.

طرق الباب قبل أن يفتحه بجمود، طالعته ريما الجالسة على سريرها ببسمة صافية، اختفت رويدا عندما رأت ملامحه الواجمة، سار حتى جلس إلى الأريكة مطالعا إياها بنظرات غريبة، قطبت جبينها وهي تنهض من جلستها لتمشي ناحيته متسائلة بقلق حقيقي: ما بك أدهم؟ لم أنت على هذه الحال؟
لم يجبها فورا، بل بقي يرمقها بجمود حتى تحدث أخيرا ببرود: لقد ذهبت لأكلم أماليا كما طلبت مني.

انشق ثغرها عن ابتسامة عريضة وهي تقترب منه متسائلة: حقا! ومالذي حدث؟ ماذا أجابت؟
ابتسم ساخرا وهو ينزل نظراته عنها إلى الأرض: لقد أخبرتني أنك كنت لديها اليوم.

حتما أنها إجابة غامضة، طالعته بشك و حاجبين معقودين، مالبثت أن اتسعت عيناها بصدمة جلية و تحولت ملامحها إلى الدهشة عندما استوعبت الأمر، تذكرت لتوها تلك اللافتة الخشبية أمام باب العيادة والتي لم تقرأ الاسم المدون عليها، كذلك ارتسمت أمامها صورة أماليا عندما رأتها هناك، كم كانت نظراتها تنم عن المفاجأة، شهقت بخفة مرددة: لا أرجوك، لا تخبرني أنها أماليا نفسها؟!

نفخ بضيق ليرفع رأسه إليها قائلا بضيق طفيف: هلا أفهمتني ما الأمر ريما؟
فركت جبينها بأصبعيها قبل أن تتحدث بشبه ضياع: أنا آسفة أدهم ولكن...
نفخت بضيق لتتجه وتجلس بجانبه، ثم تحدثت: لقد ذهب مجد ليتحدث مع إيمان بالأمس، وأخبرها أنني اتحاشاه وكذلك أنت.
تجعد جبينه باهتمام فيما رفعت أنظارها نحوه لتضيف: وقد أخبرته إيمان بلقائي بريما ابنة أيمن وكيف بكيت بعدها، ثم استنتج كلاهما أنني أفتقد شعور الأمومة.

سكتت لثانية قبل أن تضيف: وهكذا حجزت لي إيمان موعدا لدى طبيبة مشهورة تعرفها، لكنني لم أحسب أنها قد تأخذني إلى أماليا.
قطب جبينه و تلاحم حاجبيه متسائلا بانزعاج: ولهذا بعثت لي تلك الرسالة الغريبة؟
أشارت له بالإيجاب ليضيف بذات النبرة: وكيف تطاوعينها ريما؟ ألم تخشي من العواقب لو دخلتي إليها؟

أجابت بسرعة قبل أن يسيء الظن بها: صدقني أدهم أنا لم أتمكن من الرفض، خاصة بعدما عرفت أن إيمان متفقة مع مجد، خشيت إن رفضت فهذا سيجعله يشك بنا، وأنت تعلم مدى حساسية مجد لهذه الأمور.
نعم ربما هي محقة، لم يجد مايجيبها فأشاح بوجهه إلى الجانب الآخر نافخا بضجر، كما توقع الأمر برمته خطأ، لكن من ذا الذي يخبر أماليا ويقنعها بالحقيقة؟!

أزعجها سكوت أدهم، فهذا يشبه الهدوء ماقبل العاصفة فتسائلت بحذر: ماذا حدث بينك و بين أماليا؟
تجهم وجهه مجددا مع ابتسامة متألمة مجيبا بنبرة هادئة لكنها تحمل سخرية العالم، : لم يحدث شيء، فقط طلبت أن تذهبي لطبيبة أخرى.
نبرته الموجوعة آلمتها فأغمضت عينيها لتتمتم بخفوت، : آسفة أدهم، صدقني لم أتوقع حدوث كل هذا.

تنهد بقوة ومازال لا ينظر لها، تطلع صوبها بعد ثوان ليقول بآسى مربتا على قدمها: لا تعتذري ريما أنت لا ذنب لك، فقدري كحظ زوجة عاشقة، صنعت قالب حلوى ورتبت نفسها لتفاجئ زوجها في يوم ميلاده، ليفاجأها هو بورقة طلاقها...

استقام بعدها بثقل يجر قدميه قسرا إلى غرفة الملابس لينام، راقبته بشفقة وهي أكثر من يحفظ أدهم، تعلم أنه لن يغمض له جفن مثلها تماما، تعرف كم بذل الأخير من تضحيات في سبيل مجد، لكن التضحية الأخيرة لن يمررها بسهولة، خاصة وأنها من زرع في عقله بعض الأمل بقرب لقائه الأبدي مع مالكة الهوى والفؤاد.
أحنت رأسها لتدفنه بين راحتيها نافخة بضيق، ياآلهي أرح قلوبا أنت أعلم بعذابها!

توسدت الأخرى فراشها ظنا منها أن يوم غد سيغدو أفضل، لكنها لم تعقد اتفاقا مع القدر ليكف عن مفاجأتها!
لكن مهما حدث لا تنسى، أن لا شيء يحدث جزافا، كل شيء ولا دلالة وسبب، ولا تنسى أيضا، أن غدا يوم افضل.


look/images/icons/i1.gif رواية وصية والد
  23-03-2022 03:39 مساءً   [15]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 01-11-2021
رقم العضوية : 116
المشاركات : 6453
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 10
رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس عشر

لم يضيع ايمن الوقت أبدا منذ أن أخبرته مربية ابنته بأن المرأة التي قابلتها ابنته ريما، هي مديرة ايمان في عملها، وهاهو الآن جالس في صالة منزل الأخيرة بعد عودة زوجها من عمله.

تفرس في وجه كليهما بعد عرضه لطلبه، الغريب بعض الشيء، حيث أخبرهما بما جرى مع ابنته مستثنيا بعض التفاصيل، طالبا من إيمان مساعدته في الوصول إلى ريما، تبادلت إيمان مع زوجها نظرات مترددة، لاحظها أيمن فتحدث قائلا: سيدة إيمان، أنا لا أطلب منك الكثير، فقط أن تعرفيني على مديرتك واترك الباقي لي.

قطبت إيمان جبينها بتفكير، قلبت الأمر في رأسها فوجدته ثقيلا وقد لا تقبل ريما اساسا، فتحدثت بارتباك طفيف: نعم سيد أيمن، ولكن، انا لا أريد أن أجلب لريما أية متاعب...
قاطعها بإصرار مختلط برجاء: لن يكون هناك أية متاعب سيدة إيمان أعدك.
زفرت باستياء من عناده، فأردفت بحزم: سيد أيمن انت لم تفهمني، أنا اعتذر ولكن، هل تراه أمرا لائقا قدوم سيدة متزوجة كريما إلى منزل رجل أعزب؟

نعم إنها على حق لكن لا خيار متاح أمامه سواها، اسشعر الرفض في نبرتها فنظر إلى هيثم زوج إيمان طالبا المساعدة، فوضع الأخير يده على ذراع زوجته لينال انتباهها، ثم قال بحسم لطيف: إيمان عزيزتي، لا أعتقد أن ريما سترفض المساعدة في أمر إنساني كموضوع ابنة السيد أيمن، لذا برأيي اترك الأمر لها فلتقرر هي.

نظرت إلى زوجها بشيء من التردد، فأشار لها مطمئنا، ضغطت على شفتيها بتفكير دام ثوان، قبل أن تتطلع إلى الآخر. قائلة: حسنا سيد أيمن، سأنتظرك غدا صباحا أمام منزلي.
انفرجت ملامحه عن رضا فأشار لها بامتنان، رغم بعض االقلق المختلط بالامتعاض كلما فكر بأنه سيراها في الغد.

دخل منزله لتستقبله صورة كبيرة تجمعه مع زوجته الراحلة وابنتهما، تنهد بحسرة ثم فطن لأمر ما، لا ينبغي لريما رؤية صورة زوجته مهما كان الثمن، سار بخطوات ثابتة إلى الصورة فانتزعها من الحائط، ثم اتجه بها إلى غرفته، آخر مكان قد يسمح لريما بدخوله في المنزل.

دثرت عليا زوجها في سريره جالسا نصف جلسة، سحبت الغطاء السميك لتغطيه ثم جلست على طرف السرير، تطالع وجهه الشاحب، لا يبدو على مايرام هذه الأيام، رغم هذا حاول الابتسام متحدثا بوهن ولهاث خفيف: ما الأمر عليا؟ هل اصبحت عجوزا؟
ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيها، أمالت رأسها للجانب متسائلة: هل ما زلت تذكر المرة الأولى التي التقينا بها؟
قطب جبينه بتفكير مردفا: ماالذي ذكرك بلقائنا الآن عزيزتي؟

تجهم وجهها لتنكزه في كتفه بخفة متصنعة الغضب: لأن ذكرى لقائنا للمرة الأولى في الغد أيها العجوز الخرف.
استنكر الصفة التي أطلقتها عليه فتحدث باستغراب: أنا عجوز خرف.؟
أشارت له بجبين مقطب، وابتسامة تحارب للظهور، فأضاف بمشاغبة ونظرات ماكرة تتقافز من عينيه: هل تريدين أن أثبت لك من العجوز فينا؟

قهقهت على كلماته المتلاعبة تحرك رأسها للجانبين بيأس من حركات زوجها الصبيانية، أراح رأسه للخلف بتنهيدة بطيئة متحدثا: نعم، لا أزال أذكر ذلك اليوم، وكيف لي أن انساه؟
أدار رأسه صوبها مبتسما بخفة معقبا: يومها خسرت حبيبة، واكتسبت حبيبة اجمل.

ابتسمت بمجاملة وهي تدرك أن يقصد كلماته بالحرف، كذلك تعلم أن عمار لم ينسى سيدرا والدة أماليا يوما، والحق يقال حتى هي لم تستطع نسيانها كذلك، شرد عمار للحظات فعلمت أنه عاد بذاكرته ثلاثون عاما للخلف، تلقائيا عاضدته ذكرياتها.

Flash Back.
كان الطقس سيئا بما فيه الكفاية هذا اليوم، فالأمطار لم تتوقف للحظة منذ مساء أمس، إضافة إلى الرياح العاتية، كان عمار، الشاب ذو الخمس وعشرون عاما، يقود سيارته عائدا من منزله نحو المستشفى، بعد أن أوصل والدة زوجته لترتاح قليلا، كانت قسماته المجهدة يغطيها الحزن، فحبيبته وزوجته متعبة بسبب علة في القلب، خاصة بعد ولادتها لابنتهما والتي اختارت لها والدتها اسم أماليا.

أدخلت سيدرا قسم العناية المشددة منذ الأمس، وهي متعبة للغاية منذ ذلك الحين، أما الصغيرة أماليا فقد تم وضعها في الحاضنة الصناعية.

لاحظ على جانب الطريق الأضواء الجانبية لسيارة ما تومض وتنطفئ، راوده الشك في أمرها، فخفف سرعته حتى يتمكن من رؤية السيارة الأخرى، اتسعت عيناه بصدمة عندما تأكد من شكوكه، فقد كانت تلك السيارة يقف نصفها على الرصيف، بعد ارتطامها بعمود الإنارة في الشارع، هرع لمساعدة السائق رغم الامطار الغزيرة، ليتفاجأ بوجود رجل يستند برأسه إلى مقود السيارة، مد عمار يده ليعيد الرجل إلى الخلف، شهق بارتياع عندما رأى قطعة زجاج كبيرة مغروسة في عنق الرجل، وجهه متضرج بالدماء والجراح، تفحص نبضه لكنه كان معدوما.

انتبه لتوه إلى أنين خافت يصدر من الخلف، اخفض رأسه لينظر إلى مصدره، هناك وجد عليا ممددة على الكرسي الخلفي للسيارة، اتجه إليها فورا ليفتح بابها، شهق مجددا حالما طالعه بطنها المنتفخ، إذا فالمرأة حامل؟، همس يسألها بخفوت وارتباك: ياسيدة؟ هل تسمعينني؟
فتحت عينيها بضعف، وقد غطت العبرات وجنتيها، همست بوهن: ساعدني أرجوك.

لم يفكر عمار مرتين، وهو ينحني ليحملها ليكتشف أن عليا قد دخلت في المخاض، بحركات سريعة مدروسة، نقلها إلى سيارته رغم سيول الأمطار التي لم تتوقف، ثم قادها إلى المشفى، وفي طريقه هاتف الإسعاف أيضا ليتم نقل الرجل.

وصل عمار للمشفى بسرعة قياسية، لم تصرخ عليا ولم تتألم، فقط اكتفت بالأنين المرتفع تارة والمنخفض حينا أخرى، أوقف سيارته بشكل مفاجئ، وترجل غير آبها بإطفاء محركها، حمل عليا بين يديه ودلف إلى المستشفى، صارخا بطلب المساعدة، هب الجميع لمساعدته ونقل عليا إلى قسم الولادة فورا.

جلس عمار في الممر بأنفاس لاهثة، شعر بالقلق على تلك السيدة الغريبة وجنينها، انتبه الآن إلى ثيابه المبتلة فزفر بضيق، عليه إبدال ثيابه قبل أن يمرض لكنه أولا يريد الاطمئنان على السيدة، مر بعض الوقت قبل أن يسمع صوت سيارة الإسعاف تصل إلى المشفى حاملين الرجل المتوفي.

وضعت عليا جنينها، لكنه للأسف كان متوفيا أيضا، علم عمار فيما بعد أن الرجل الذي وجده في السيارة هو زوج عليا، وقد كانا في طريقهما إلى المستشفى لتلد عندما انزلقت إطارات السيارة وخرجت عن سيطرة قائدها، ثم اصطدمت بعمود الإنارة ليموت زوج عليا على الفور.

خرج عمار إلى الغرفة التي أودعت فيها ابنته أماليا وقد زاد همه وحزنه، أخبرته الممرضة أن أماليا لم تقبل الحليب الصناعي، كذلك ليس بإمكانهم ارضاعها من والدتها المريضة، وهو الآن بحاجة إلى امرأة ما لترضعها، وإلا فإن الصغيرة قد تموت، أسقط جسده على الكرسي ذو اللون الأزرق مفكرا بأمر ابنته، عندما أطل عليه ظل طويل، رفع رأسه ليرى عليا تقف امامه، وبجانبها إحدى الممرضات تسندها، تحدثت بتعب عظيم وابتسامة باهتة: أتيت لأشكرك أيها السيد، لقد أنقذت حياتي.

اختنقت في آخر كلمة نطقتها، لتنهمر دموعها من جديد، ابتلعت غصة خانقة لتشير إلى الممرضة بأن تساعدها للعودة إلى غرفتها، استدارت لتخطو عائدة تحت أنظار عمار المستغربة، لقد تكبدت السيدة عناء المشي مسافة ليست بالقصيرة فقط لتخبره بكلماتها المقتضبة وتشكره؟
إنها امرأة صلبة قوية حقا، برغم خسارتها الفادحة، زوجها وابنها الذي لم ير النور أبدا، إلا أنها لم تزل واقفة.

تجمدت قدما عليا مع صوت بكاء طفلة صغيرة، استدارت لتسير برفقة الممرضة التي لم تعارضها لتقف عند الزجاج الكاشف، رأت هناك ممرضة أخرى تحاول إطعام طفلة ما، فتضع زجاجه الحليب الصناعي في فمها فترفضها ليعلو بكاؤها من جديد، تسائلت عليا عن الطفلة فاخبرتها الممرضة بأن والدتها مريضة لا تستطيع إرضاعها، وكما رأت فالصغيرة لا تتقبل الحليب، آلمها قلبها عليها، فسارت لتدخل إلى الغرفة، أخبرت الممرضة أن تعطيها أماليا ففعلت، جلست على الكرسي لتشعر بصدرها يكاد ينفجر، من فرط حنانها تدفق الحليب منها بجنون، ودون تفكير وبعاطفة صادقة، قررت إرضاع الصغيرة، التي تقبلت حليبها كأنها ترضع من والدتها الحقيقية.

دققت عليا النظر في تلك الملاك الصغيرة، عينيها التي بان لونهما الأزرق منذ ساعة خلقها، وشعرها القصيرالاشقر وبشرتها الناعمة، حبها احتل قلبها دون سابق إنذار، ابتسمت من بين دموعها، كأن الله عوضها عن ابنها الذي تم دفنه دون حتى أن تراه.

عرف عمار بما فعلت عليا مع ابنته، فأخبر زوجته التي طلبت رؤية عليا بعدما علمت بقصتها من عمار، وبعد اللقاء الذي اقتصر على المرأتين، طلبت عليا من سيدرا أن تعتني بأماليا وترضعها حتى تشفى والدتها، وقد وافقت ما دامت عليا ستبقى في المشفى.

لكن الله لم يكتب الشفاء لسيدرا، بل اختار أن يسترجع أمانته منتصف تلك الليلة، لتبقى أماليا مع عليا ذات الحنان الصادق في المشفى، فيما كان عمار يجهز لجنازة حبيبته، وقلبه يعتصر ألما وحزنا.

مرت أيام بعد الدفن وعمار ما زال على حزنه، كانت السيدة جليلة والدة سيدرا، يومها ما تزال على قيد الحياة، قد تولت مهمة إيصال أماليا أكثر من مرة يوميا إلى عليا لترضعها، عرفت منها أن لا أقارب لها، وأن أهل زوجها الراحل حرموها من ميراثه، بل وطلبوا منها تفريغ المنزل والخروج لأنها، وعلى حسب ادعاءاتهم، نذير شؤم، كأنها هي من قتلت زوجها وابنها!

تفكرت جليلة في أمر فيه منفعة للجميع، خاصة أنها قد تعرفت إلى عليا جيدا، واستشعرت حنانها الصافي ناحية أماليا، فسألت السيدة الجليلة عن عدة عليا لتخبرها الأخيرة أن لا عدة شرعية لزوجها عليها، كونه مات قبل أن تضع حملها وبهذا تكون قد أنهت عدتها المفروضة عليها.

لم تتأخر جليلة في طلب يدها لتزوجها لعمار، الذي رفض بادئ الأمر، ثم مالبث أن وافق لأجل مصلحة ابنته، ورغم كون زواجهما كان لأسباب خارجة عن إرادة كل منهما، لكن ذلك لم يمنع شرارة الحب من الاشتعال بينهما، كأن كل واحد منهما دواء وشفاء للآخر.

عادت عليا من ذكرياتها لترى زوجها قد غط في النوم، حقا لم تنتبه متى توسد فراشه لينام، رمقت وجهه الشاحب بمزيج من الحب والخوف، عمار يا سندي وعضدي في الدنيا، أرجوك قاوم قليلا بعد، لتفرح بزواج ابنتيك كما تحب وترغب.
اتخذت مكانها بجانبه لتنام هي الأخرى، طبعت قبلة حب على جبينه، قبل أن تغمض عيناها على وجهه تتأمله كأنها تودعه، ولم تعرف أن تلك القبلة وذلك الوداع، سيكون الوداع الأخير!

قبيل الفجر بساعة.
استفاق عمار ولا يشعر بألم كعادته، إحساس بسكينة عجيبة سيطر عليه، شهق نفسا عميقا من نسمات الفجر الصافية، فلم يشعر بالألم في جزئه الأيسر و المعتاد بالنسبة إليه، دبيب خافت أخبره أن ساعته قد أزفت...

شمل غرفته بنظرة وداع حتى وقعت عيناه على الصورة الكبيرة المقابلة للسرير، كانت صورة تجمعه بعائلته الصغيرة، مازال يذكر كيف التقطت هذه الصورة منذ سنوات، كان عمار جالسا على كرسيه المفضل في الحديقة، وعليا تجلس بجانبه تعرض عليه ملفات متعلقة بالعمل، عندما سمع كلاهما ضحكات أماليا ونور، كانتا تتسابقان إلى الحديقة لتريا والداهما الكاميرا الجديدة التي اشترتها أماليا، ثم قررتا تجربتها لتنادي أماليا على أمينة وتخبرها بأن تلتقط لهم صورة تذكارية.

دمعة حارقة هربت من عينه ليغمضها بوجع، التفت إلى عليا النائمة بجانبه، دمعة ثانية لحقت برفيقتها متأملا وجهها، متنهدا بحسرة، بوجع، بجزع.
أماليا، نور، عليا، يشهد الله لو أن الأمر بيدي، لما غادرت وتركتكن وحدكن في صراع الحياة ومعتركها، لكنني على يقين بأنكن ستبقين سندا لبعضكن دائما، نور أماليا، ابنتاي الحبيبتان، راحل أنا وقلبي سيبقى هنا، وروحي ستظل تحوم حولكما.
راحل أنا، ونفسي راضية مرضية عنكما.

ازدرد ريقه عندما شعر بنبضات قلبه التي تسارعت و نفسه الذي بدأ يضيق، رفع رأسه بمشقة، ليقبل عليا من جبينها برفق لا يريد إيقاظها. ، تأملها بوداع ليغمض عينه، وعبرة أخيرة نفرت منها لتستقر على وسادته، بعدها بلحظات أسلم روحه إلى بارئها.
قضى عمار هكذا، بهدوء ودون جلبة، لتبقى روحه القلقة تحوم في منزله، حول بناته وزوجته..

إنه الصباح، لكنه، وبوجود إيمان التي تجلب المصائب من حيث لا تدري، صباح مختلف.
فتحت ريما المحل باكرا بحماس، فالليلة سيتم افتتاحه أخيرا، هاتفت إيمان لتخبرها الأخيرة باقتضاب أنها في الطريق إليها.

تحركت برشاقة وخفة، وحماس يتزايد كل لحظة، ساعدت الفتاة الأخرى التي تعمل معها في التنظيف ووضع اللمسات الأخيرة، قبل أن يحضر فريق من متخصصين في الحفلات، لتقديم المحل بأبهى حلة، كانت إيمان عند هذه اللحظة قد وصلت برفقة أيمن، حلت حزام الأمان لتترجل من السيارة، فيما بقي أيمن داخلها، رفع رأسه إلى اللافتة العريضة أعلى واجهة المحل الزجاجية، تأمل الإسم المخطوط عليها بأحرف ذهبية وخط متقن، ابتسم ساخرا وهو يقرأ اسم( الريما).

انتبه لتوقف إيمان ناظرة إليه باستغراب لتأخره خلفها، حل حزامه هو الاخر، ثم نزل لاحقا بها.
وقفت ريما ترتب احد الاثواب المعلقة بالقرب من مدخل المحل الزجاجي العريض، انتبهت الى اصوات الأجراس، فالتفتت للباب الذي فتح للتو لتدخل إيمان منه، شملتها بنظرة سريعة، لتعود إلى ترتيب الثوب محدثة الأخرى بمشاغبة لطيفة. وابتسامتها التي لاتفارقها: لماذا تأخرت سيدة إيمان؟ هل كان علي ان أرسل وفدا عسكريا لاحضارك؟

لم تجبها إيمان، فالتفتت إليها محافظة على ملامحها السعيدة، سرعان ما عقدت حاجبيها عندما ميزت تردد إيمان وتوترها، ولم تزل واقفة بقرب الباب، ويدها التي تشد على حزام حقيبتها الجلدية، وقبل أن تسألها لاحظت لتوها خيال شخص يقف خلف إيمان، وعندما دققت النظر شحب وجهها، جف ريقها وتسارع تنفسها متجاوزا الحد الطبيعي بمراحل بعيدة.

تحركت إيمان لتلتفت إلى أيمن الذي وقف خلفها، ازدردت ريقها لتعود بانظارها إلى ريما التي ثبتت مقلتيها بفزع على وجهه، تكاد تقسم أنها ميزت نظراته الناقمه حتى من خلف نظاراته الداكنه، حقا آخر شخص قد تريد رؤيته الآن، و آخر مكان قد تصدق أن تراه فيه.
تحدثت إيمان بخفوت لتجذب عيناها القلقة إليها، وقد نجحت: ريما هذا السيد أيمن، جاري في الحي، يريد محادثتك في أمر هام، اسمعيه لو سمحتي.

بسمة متهكمة ارتسمت على شفتي أيمن عندما عرفتهما ببعض، لا تدري أنهما يعرفان بعضيهما قبلها بسنين.

استفاقت عليا بعد موعدها المعتاد بساعة، لم يكن من عادتها الاستيقاظ متأخرة، كان وجه عمار أول ما طالعها عندما فتحت عيناها، ابتسمت بحب ثم تحركت من مكانها بخفة دون أن توقظه، وضعت قدميها على الأرض لتعقد حاجبيها فجأة، رمشت عيناها مرات عدة قبل أن تعيد نظرها إلى زوجها، قفز قلبها بين ضلوعها فزعا عندما لاحظت، لتوها، شحوب وجهه بشكل مخيف.

ازدردت ريقها وتسارعت أنفاسها، ارتجفت شفتاها لترفع يدها المرتعشة بتردد لتضعها على وجنة عمار، شهقت برعب أسقط قلبها بين يديها لبرودة وجهه، رأت دمعة الوداع الأخير التي خلفها عمار خلفه، تفجرت شلالاتها لتصرخ باسمه، صراخ قطع نياط فؤادها المفطور.

لن ترتاح إيمان بالتأكيد حتى تلقي بريما في واد سحيق، أو ربما يجب أن تفعل ريما ذلك، فتلقيها في حفرة لا قاع لها، اتقاء لمفاجآتها والتي، على ما يبدو، أنها لن تنتهي قريبا!
لا تعرف كيف حملتها قدماها، وسارتا بها لتدخل إلى المطعم القريب من المحل، برفقة أيمن والذي لم يكن بحال أفضل، بناء على اقتراح إيمان، ليتمكنا من الحديث بأريحية.

عقدت كفيها ببعض تشد عليهما كأنها تستمد منهما الدعم، حضر النادل ليأخذ طلباتهما فأجلت حلقها لتطلب فقط كأسا من الماء، لتبلل ريقها الجاف، في حين طلب أيمن قدحا كبيرا من القهوة السريعة.
لم ينظر أيمن إليها للآن، أو هكذا ظنت، لم تر، وهي منكسة رأسها، عيناه التي كانت تتفحصانها كل لحظة من خلف عدساته، والتي لم يخلعها بعد، لم تجرؤ على حثه على الحديث، رغم دعائها الخفي داخلها بأن ينتهي هذا اللقاء سريعا.

كان أيمن ينظر إلى الجانب، ويخطف كل لحظة نظرة عابرة إلى ريما، يخفق فؤاده بين ضلوعه فيعود لينهره بغضب ويشيح بنظره بعيدا، انتظر حتى عاد النادل بما طلبا، لاحظ أنها تناولت كوب الماء قبل حتى أن يضعه النادل لتشربه حتى منتصفه، تحاشت النظر إليه مباشرة، لتعود إلى وضعها الأول.

داعب بأصابعه طرف قدحه يفكر في الكلمات المناسبة لسرد طلبه، شعر بتململها فتنهد بخفة وخلع نظارته قبل أن يتحدث بجفاء وجبين مقطب كالمجبر على الحديث: اسمعي، لقد حدثت مشكلة ما مع ابنتي، وتريد رؤيتك.
خفق فؤادها بخوف على ريما الصغيرة، لكنها لم تفهم مغزى حديثه فما شأنها هي؟، هل هي أحجية ما؟
رفعت رأسها إليه لثانية، لتسأله بتردد: ما الذي حدث؟ وما علاقتي أنا؟

تأفف مجيبا بأنفة: مشكلة ما لا تخصك بشيء، عليك الحضور إلى منزلي و تراك ابنتي.
ازدردت ريقها بفزع من نبرته الجافة، و زاد فزعها من إجابة سؤال ما يدور في ذهنها، تشجعت لتسأل فخرج صوتها خافتا مهزوزا: وماذا بالنسبة إلى زوجتك؟
كور قبضته بغيظ مجيبا بحنق: أخبرتك أن لا شأن لك يا سيدة!

رفعت حاجبيها باستغراب من طريقته، نظرت إليه لأول مرة بجبين مقطب قائلة بنبرة تهكمية: اسمي ريما بالمناسبة، ومالذي يجبرني على الموافقة؟
ابتسم الثاني ساخرا ليجيبها بقسوة ناظرا في عمق عينيها، متجاهلا تعليقها: لولا إصرار ابنتي على رؤيتك لما أتيت، لذا فانتي مجبرة على الموافقة آنسة ريما.
سكت لثانية قبل أن يردف بتهكم: عفوا، أقصد مدام ريما.

جزت على أسنانها بعنف من طريقته الاستفزازية، حدق كلا منهما في عيني الآخر بتحد دام لثوان، ثم تحدثت هي الأخرى بتكبر: ولماذا في منزلك؟ ألا يمكنني مقابلتها في مكان آخر؟
ابتسامة صفراء ارتسمت على محياه متحدثا بتهكم: هل تخافين؟
لم تتبدل تعابيرها المحتقنة ليردف بغرور وعجرفة: ابنتي مريضة ولا يمكنها الخروج.

ظلت تنظر داخل عيناه لترى نارا تشتعل داخلهما، والحق يقال ماتراه فيهما مخيف، مخيف لدرجة مرعبة، ازدردت ريقها بوجل حتى قررت ريما أن تخفض نظراتها عن مدى عينيه الخضراء، عبثت بأصابعها لتقول ببعض التردد: أنا موافقة، لكن أولا يجب أن أحادث زوجي.
امتعضت قسماته متسائلا باستنكار: لماذا؟ هل من الوارد أن يرفض؟
أجلت صوتها دون النظر إليه لتردف: لا أعتقد هذا، لكن يجب أن أخبر أد...

تأفف ليقاطعها بنبرة جافة متكبرة قبل أن تنطق الاسم: حسنا حسنا، اخبري زوجك هذا أيا كان اسمه.
عبث بجيب سترته الجلدية ليخرج بطاقة مستطيلة سوداء، ألقاها على الطاولة أمامه كمن يرمي حسنة ما لمتسول مضيفا بذات النبرة المغرورة: وهذا رقمي، اتصلي بي فور حصولك على موافقته.

وقف فورا ليخرج من جيبه بضع وريقات مالية ألقاها بجانب كوبه ليتحرك خارجا كأنه يهرب من مكان واحد يجمعهما، حسنا فعل، فقد نجى بجلده من غضبة ريما التي تسارعت أنفاسها بغيظ من تكبره، كم ودت لو أنه بقي لوقت أطول لتتخلى عن لباقتها وتفرغ كوب القهوة الساخن والذي لم يمسه فوق رأسه، حقا كان يستحق ذلك!

زفرت بضيق لتدفن وجهها بين راحتيها، قبل أن يستبد بها التفكير الإجرامي، انتبهت لرنين هاتفها فسارعت لتخرجه من حقيبتها، شحب وجهها وهي تقرأ اسم مجد ينير الشاشة، باتت تخاف حتى من قراءة اسمه على هاتفها! حقا وصل بها خوفها من مجد إلى هذه الحال؟
أجابت الإتصال بنبرة حاولت جعلها عادية: نعم مجد؟
أتاها سؤاله الغريب والذي يبعث على الشك: أين أنت ريما؟

رفرفت بعينيها وتلقائيا رفعت رأسها تبحث عنه خوفا من تواجده في الجوار، لتجيب بارتباك طفيف: أنا في المحل، ما الأمر؟
سكت للحظة ليقول بصوت حزين: لقد توفي والد نور.

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 3 من 11 < 1 2 3 4 5 6 7 8 11 > الأخيرة




المواضيع المتشابهه
عنوان الموضوع الكاتب الردود الزوار آخر رد
رواية صغيرتي الحمقاء رواية صغيرتي الحمقاء زهرة الصبار
39 2159 زهرة الصبار
رواية انتقام ثم عشق رواية انتقام ثم عشق زهرة الصبار
38 1590 زهرة الصبار
رواية حبيب الروح رواية حبيب الروح زهرة الصبار
39 1616 زهرة الصبار
رواية لا ترحلي رواية لا ترحلي زهرة الصبار
36 1463 عبد القادر خليل
رواية أحببت فاطمة رواية أحببت فاطمة زهرة الصبار
74 2692 زهرة الصبار

الكلمات الدلالية
رواية ، وصية ، والد ،












الساعة الآن 02:42 AM