رواية مواجهة الأسد الجزء الأول للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني والثلاثون
فتحت شهد الباب لتجد محسن امامها يحمل حقيبته ولكن بمفرده، خرجت منها شهقة بخفوت واضطرب كيانها ثم ظلت تعود للخلف بخطوات بطيئة بينما كان محسن يرمقها بنظرات هادئة، حانية لأول مرة تراها شهد في عيونه، ظلت محدقة به بصدمة وخوف وهي تنظر في عيناه كأنها تبحث عن نيران الغضب التي كانت دائمًا تشع من عيناه ولكن فشلت في إيجادها، بعد لحظات من الصمت وسمع نسمات الهواء فقط، تحدث محسن بهدوء حذر قائلاً..
اية ياخيتي ماهتجوليليش ادخل كان صدرها يعلو ويهبط من الخوف، وكانت في حيرة شديدة من امرها، تسمح له بالدخول لأنه يظل اخاها، ام تطرده وتشعر بالذنب إتجاهه، تغلبت عليها عاطفة الأخوة والحنان وتمتمت بهدوء يشوبه الخوف قائلة.. أدخل، بس آآ انت عايز مني اية تاني أبتسم محسن أبتسامة سخرية على حاله الذي اصبح مثير للشفقة، والده بين الحياة والموت وشقيقته الوحيدة تخشاه وترتعد من رؤياه كأنه وحش مفترس سايؤذيها..!
هتف بصوت متحشرج قائلاً بأطمئنان.. ماتخافيش ياخيتي، انا ماجايش أذيكي ولا ارجعك غصب عنك هدأت شهد قليلاً واختفت نظرات الخوف من عيناها، هي على يقين تام أن محسن ليس بمخادع لهذه الدرجة، وأنه رغم كل شيئ ينفذ ما يقوله مهما كان.. نظرت له بهدوء ثم قالت بتساؤل قائلة.. امال جاى ليه يا محسن؟!
دلف بخطوات هادئة للداخل وأبتعدت شهد لتفسح له الطريق، وأغلقت الباب ثم إتجهت نحوه وجلسوا سويًا على الأريكة، ظلت شهد تنظر للأرضية وهي تفرك اصابعها بتوتر، كانت قلقة من مجيئ محسن المفاجئ، مؤكد أن هذا الموضوع ليس بالهين ليجلبه كل هذه المسافة.. تنهد محسن وهو يقول بحزن.. أبوكي يا شهد نظرت له شهد بسرعة وبهلع وهي تهتف بتوجس قائلة.. أبويا ماله يا محسن ماتقلقنيش.
مهما يظل هذا أباها الذي جلبها لهذه الدنيا، من الأساس كانت شهد تعشقه برغم كل ما فعله معها، كان كل ما يؤلمها هو ابتعادها عن قطعة من قلبها، شعرت بنغزة مؤلمة في قلبها كأنه يتألم حقًا، ثم نظرت لمحسن الذي كان وجهه خالي من اى مشاعر ثم استطردت بلهفة وقلق قائلة.. ارجوك يا محسن تقولي ابويا ماله، سكوتك دة بيقتلني ويخوفني اكتر.
أخذ محسن نفسًا عميقًا وزفره على مهل، كحركة أستعداد للعاصفة القوية والمؤلمة التي سيهبها على شهد الان ثم تابع بألم قائلاً.. ابوكى عنده القلب يا شهد وف مرحلة متأخرة جدًا والدكتور قال إنه هايعمل العملية هنا و، ونتيجتها مش مضمونة.
كانت شهد تحدج به بصدمة وقد خلت تعابير وجهها من اى مشاعر، كان نظره هو الاخر معلق عليها ليرى مدى تأثيرها ليجدها لم تظهر اى شيئ سوى النظر له بصدمة وفي عيناها بريق لامع ولكن انطفئ الان وهي فاغرًة شفتيها، إبتلعت ريقها برعب حقيقي وهي تتساءل.. ق قصدك، قصدك اية يا محسن نظر لها محسن بقوة ثم أردف بصوت صلب قائلاً.. قصدى انتي لازم تيجي تشوفي ابوكى يا شهد، هو نفسه يشوفك.
تلقلقت الدموع في أعينها البنية ليعطيها لمعان خافت، وفجأة نظرت له بشك وهي تهمس بخوف.. انت مابتكذبش عليا يا محسن صح؟ تأفف بضيق شديد وهز رأسه مؤكدًا ثم زمجر فيها بغضب قائلاً.. ودة وجت هزار يا شهد او كذب وبعدين انتي تعرفي عن اخوكي انه كدة؟!، انا لما بكون هاعمل حاجة بعملها علني يابت ابوى.
لمست الصدق في نبرة صوته الغاضبة، ولكنها أرادت ان يكون كاذب، لم تريد تصديق ما يحدث، عضت على شفتها السفلية بغلب وقلة حيلة وقد زادت الدموع في عيناها وهي تتمتم بحنو.. لا يا بابا لا ارجوك اوعي تسيبني زى ماما اوعي عَلَي صوت هاتفه معلنًا عن إتصال، لملم عبائته ليخرج الهاتف من جيبه ثم اجاب ووضعه على اذنه ثم قال بصوت قاتم.. الووو يا عمي خير.
ابوك تعب يا محسن زيادة وجبناله الدكتور وجال ( قال ) إنه لازم يعمل العملية ويسافر القاهرة بسرعة، واحنا بنجهز كل حاجة وهانجله بالأسعاف ياارب، طب انا اجي ولا اعمل اييية بس ياربي لا لا خليك ف اى حته لما احنا نيجي احنا كدة كدة هانتحرك بطيارة خاصة النهاردة بعد شوية، وهاتصل بيك اول ما نوصل طيب طيب ياعمي وطمني الله يخليك ماشي، سلام سلام.
نهض وهو يضع هاتفه في جيبه مرة اخرى وينهض ومعالم وجهه لا تَدُل على الخير ابدًا، وحمل حقيبته بسرعة وكاد يتجه للخارج إلا ان اوقفته شهد وهي تسأله بأستنكار قائلة.. اية يامحسن ماشي كدة من غير ماتطمني ولا تقولي قالولك اية كل إلى اجدر اجولهولك يا شهد إن ابوكي هايبجي هنا بعد كام ساعة وهاتصل بيكي اجولك احنا في اى مستشفي لو حبيتي تيجي تشوفيه قالت شهد مسرعة بخجل: بس انا مش معايا موبايل يا محسن.
تنحنح بضيق وهو يفرك جبينه كحركة يعبر بها عن التفكير في حل سريع ثم عاود النظر لها مرة اخرى وهو يستأنف حديثه بتفكير.. خلاص هابعتلك اى واحد يجيبك معاه.
اومأت شهد بهدوء يعكس ما بداخلها الذي كان يشتعل ويزداد لهيبه مع كل كلمة يتفوه بها محسن، ولكنها جاهدت إن تظل ثابتة، كان لديها إيمان ان والدها يحبها للغاية ولن يتركها هكذا بسهولة، غادر محسن لتهوى هي على الأريكة وقد شرعت في البكاء الحاد وضميرها يلومها وبشدة على كل لحظة أضاعتها وهي مبتعدة فيها عن والدها، على كل وقت عصت فيه كلامه وإن يكن خاطئًا، على كل فرصة أضاعتها ولم تحتضن والدها فيها بقوة وتتمسك به، ولكن لن يفيد الندم شيئ الان، فلقد فات الأوان...!
كان عمر هو الاخر يسير في الشوراع بسرعة وشرود، حزن، ألم، اشتياق، يسير بسيارته بلا هدف، حتى أنه لم يكن منتبهًا للطريق، كان يتساءل، هل هذا إنتقام لكل ما فعلته في حياتي من قتل وجرائِم، هل هذا العقاب، ولكنه مؤلم، مؤلم للغاية أن تعشق شخص حد الجنون وتتألم على بعده وتكتشف أنه، خائن، اخذ يتساءل بداخله، كيف لم اكتشفها يومًا!، كيف كنت مخدوع وكانت غشاوة على عيني!، يا الله.
تُعد أول مرة يناجي فيها عمر ربه بصدق وحزن، وقد عرفت الدموع الطريق لعينه الان، مسح دموعه وإتجه بسيارته إلى صديقه الصدوق، البحر نعم، فهو يعد الصديق الوحيد الذي يلجأ له عمر دائمًا ويحمل كل اسراره وهمومه صغيرة وكبيرة، وصل امامه بعد فترة ليست طويلة ثم ترجل من سيارته وأغلق الباب بأهمال وتقدم ووقف امامه ثم أبتسم ابتسامة مكسورة، وقد ظهر الصراع بداخله كأنه بدأ يحدث صديقه..
هي خائنة لا تستاهل الحزن عليها، والاخر يشعره أنه يوجد شيئ اضطرها لفعل ذلك فهذه لم تكن هند التي يعرفها اطلاقًا ظل يحدث نفسه هكذا وهو مشتت للغاية.
بينما في منزل رضوى، دلفت رضوى إلى غرفة مها بهدوء بعدما طرقت الباب عدة مرات ولكن لا يوجد مستجيب كأن مها في عالم اخر، نظرت إلى مها بحزن والي الهالات السوداء التي تكونت تحت عيناها ووجهها الذي كان مشرق اصبح ذابل وشاحب منذ مجيئها من مقابل حسن، وكانت تحمل صينية طعام بيدها ثم هتفت بلوم قائلة.. كدة يا مها بقالك يومين مابتاكليش ولا بتخرجي من اوضتك.
هذه هي طبيعة رضوى، تعامل من يسيئ لها بالحسني كما اوصانا رسولنا الكريم سواء كان اى شخص، فماذا عن شقيقتها الوحيدة؟، مؤكد إن خططت لقتلها وندمت وكانت بحاجة لمساعدتها لن تتأخر ابدًا، جلست على الفراش بجوار مها ووضعت الصينية على الكمدين المجاور للفراش ثم نظرت لمها التي كانت تحدق بالفراغ بصمت وهدوء تام، غير عابئة بأى شيئ حولها وإن كان صراخ طفلها وبكاؤه، رسمت رضوى الإبتسامة الطيبة على وجهها الأبيض ثم تابعت بحنان قائلة..
طب قوليلي حتى مالك يا مها، انا مهما كنت اختك الوحيدة، احنا ملناش غير بعض أنتبهت مها إلى جملتها وكأن رضوى اصابت ما ارداته وسارت جملتها في الطريق الصحيح لقلب مها الذي اصبح مؤخرًا اسود من كثرة ما تفعله ليمس خيط الاخوة الحساس، امتلأت عيناها بالدموع وهي ترى الحنان والحب في اعين شقيقتها التي لطالما كرهتها ثم أرتمت بأحضانها وضغطت عليها بقوة كأنها تحتمي بها وقالت من بين بكاؤها الخافت.. تعبانة اوووى يا رضوى.
ربتت على ظهرها بلهفة حقيقة لتهدأها وهي تقول بتساؤل.. مالك يا حبيبتي احكيلي ماتخافيش ابتعدت مها عن احضانها ببطئ ونظرت لها بهدوء، وبداخلها صراع بين أخبارها او عدم اخبارها، ولكن ماذا ستخبرها، هل ستقول لها بكل بساطة انا زانية يا شقيقتي والان احمل طفل في احشائى والده غير معترف به..! وها هي تنحدر للطريق الخاطئ وتقول بأرتباك.. مفيش يا رضوى، انا آآ بس يعني نفسيتي تعبانة اليومين دول.
رمقتها رضوى بنظرة شك ولكن حاولت تصديقها فأستطردت بأبتسامة صفراء قائلة.. طب يلا كلي بقا عشان اصدق مها بتوتر لم تستطع اخفاؤه: ماشي يا رضوى، روحي انتي شوفي وراكي اية عشان ماعطلكيش وانا هاكل نظرت لها رضوى بنصف عين وتابعت بمزاح كمحاولة لتخرجها من هذا المزاج السيئ قائلة.. طب على الله اجي الاقيكي مخلصتيش كل الاكل دة عشان هاضربك شكلي كدة بالخرطوم زى ماما زمان.
ابتسمت مها ابتسامة مسكورة واومأت برأسها موافقة بينما تنهدت رضوى ونهضت وإتجهت للخارج بهدوء واغلقت الباب خلفها، كانت مها تتعامل معها كالطفل الذي توافقه على اى شيئ حتى يبتعد عنها الان.. نظرت للفراغ بشرود مرة اخرى لتقول بهمس متوعد.. هأقتله، مفيش حل غير دة...!
بعد مايقرب من الثلاث ساعات وصل والد محسن مع شقيقه وبعض الرجال بطائرة خاصة وإسعاف إلى مطار القاهرة وتم نقله إلى مستشفي خاصة تابعة للطبيب المعالج، وتم تحديد ميعاد العملية التي ستصبح بعد ثلاث ساعات، أتصل محمد بمحسن الذي كان يجلس على نار في احدى الفنادق واخبره بمجيئهم وميعاد العملية لينطلق محسن على الفور إلى المستشفي، ورأى والده الذي كان بحالة سيئة للغاية، وقد تناسي امر شهد تمامًا، مرت الثلاث ساعات بسرعة رهيبة كأنهم ثلاث دقائق وحان موعد العملية، طلب والده ان يرى محسن ورفض الطبيب بعدم إجهاده ولكن بعد إلحاح شديد منه وافق على مضض ودلف له محسن بلهفة وجلس على احدى الكراسي الخشبية بجانبه ثم امسك بكفيه يده ونظر له بحزن وخوف وحنان، هتف الأب بصعوبة ووهن قائلاً..
محسن، اسمعني كويس يا ولدى اومأ محسن برأسه موافقًا بسرعة وقد تكونت الدموع التي جاهد طوال حياته لعدم نزولها ابدًا في عيناه، فعاود والده النطق بصعوبة قائلاً.. خلي بالك من، م من شهد يا ولدى، امك وصتني عليها جبل ماتموت بس انا ماحافظتش ع الامانة، اوعي تعمل زيي يا ولدى وتظلمها او تجسي عليها، انتوا متبجاش ليكوا غير بعض، وانا هاروح لسعاد عشان وحشتني جوى.
هز محسن رأسه نافيًا بسرعة وهو يمسح دموعه ثم استطرد بصوت متحشرج قائلاً.. لا لا يابوى اوعي تجول اكدة، انت هاتعيش ان شاء الله وهاتشوف شهد صمت لبرهه وقد ادرك مدى الغباء والنسيان الذي اصابه وخبط على رأسه بضيق وهو يحدث نفسه بخنقة قائلاً.. نسييييت ابعت حد لشهد عَلَي صوته ليقول بتمني: يااارب يابوى تخرجلي صاغ سليم عشان انا مقدرش اكمل من غيرك.
هنا تقدم الطبيب منهم ونظر لمحسن ثم هتف بجدية ليعلن عن انتهاء جلستهم التي من الممكن والمحتوم ان تصبح الاخيرة قائلاً.. يلا يا استاذ محسن عشان العملية اومأ محسن ونهض وهو يمسح دموعه التي سالت مرة اخرى بطرف اصبعه ليتقدم بعض الممرضات لنقل والده لغرفة العمليات وسط نظرات محسن ووالده الحزينة والتي يملؤها الاشتياق واليأس..
دلف إلى غرفة العمليات وهو يلقي نظرة اخيرة على الجميع كأنه يودعهم ويدعو الله في سره أن يغفر له اى ذنب ارتكبه.. أرسل محسن رجل لمنزل عمر ليجلب شهد وامره بالاسراع ليذهب الاخر بسرعة إلى المنزل الذي اخذ عنوانه من محسن.. طرق الباب لتفتح شهد بعد ثواني بلهفة كأنها منتظرة طرقه، نظرت له بتفحص ومن ملابسه خمنت انه المرسال قائلة.. انت إلى بعتك محسن صح.
اومأ الرجل موافقًا بتعجب وعقد حاجبيه السوداوين وهو ينظر لها، لتدلف شهد مرة اخرى بخطوات مسرعة اشبه للركض وهي تصيح قائلة.. خمس دقايق هألبس وهاكون عندك استني معلش عشان مينفعش تدخل محدش هنا.
زاد تعجب الرجل ولكن لم يعلق، هو عبد المأمور، ظل يتفحص المنزل بعيناه وقد ظهر بريق الانبهار من هذا المنزل الذي لم يراه سوى بالتلفاز، إلى ان اتت شهد وفي يدها المفتاح وخرجت بسرعة ثم اغلقت الباب بأحكام وساروا سويًا متجهين للمستشفي...
بعد ساعة تقريبًا وصلوا إلى المستشفي وتحديدًا إلى الطابق الذي به غرفة العمليات، لتجد شهد محسن وعمهت وهما في قمة توترهما، ازداد قلقها واقتربت منهم ببطئ، في نفس اللحظة خرج الطبيب من غرفة العمليات وقد بدى عليها الأسي والتعب ورفع الكمامة عن وجهه وهو ينظر لهم، فهتف محسن بتوجس قائلاً.. خبار يا دكتور انتوا ملحقتوش طمني رد الطبيب بأسف: البقاء لله، احنا مكملناش العملية ووالدك توفي.
فجأة وجدوا ارتطام قوى بالأرض فنظروا ليجدوا شهد قد سقطت مغشيًا عليها...!
بعد وقت، في منزل عمر وصل عمر إلى منزله وفتح الباب ودلف بهدوء ثم رمي المفتاح في المكتبة بأهمال وهو يوزع انظاره في جميع انحاء المنزل ليجد شهد تجلس على الأريكة وهي تنظر للفراغ كأنها جثة هامدة، وقد شحب وجهها الأبيض واصبح اصفر واحمرت عيناها، نظر لها عمر بتفحص وهو يقترب منها ودُهش للغاية ثم اقترب منها وجلس لجوارها ليتنحنح قائلاً بهدوء.. مالك يا شهد.
لم تعيره اهتمام وظلت كما هي ولم تنظر له حتى ثم ردت بأقتضاب قائلة.. مليش خالص تنهد عمر تنهيدة طويلة حارة تحمل الكثير ثم تابع بهدوء ما قبل العاصفة قائلاً.. احنا في موضوع لازم نتكلم فيه يا شهد لم تنظر له ايضًا واكتفأت بهز رأسها ليجز هو على اسنانه بغيظ وحدق بها بحدة ثم ادرف بحنق قائلاً.. انتي طالق يا شهد، طالق، طالق.
رواية مواجهة الأسد الجزء الأول للكاتبة رحمة سيد الفصل الثالث والثلاثون
أفاقت شهد التي كانت مسطحة على الفراش في المستشفي التي توفي بها والدها من نومها، لتجد بجوارها اخاها وقد أسود وجهه وخيم عليه الحزن الشديد، وبجواره عمها يجلسون على احد الكراسي في نهاية الغرفة، كان حالها لا يختلف عن محسن كثيرًا، بل أسوء، كانت الهالات السوداء تكونت تحت عيناها ووجهها واجم، سرعان ما هاجمتها موجه الذكريات التي حدثت وتذكرت ما حدث وتلقلقت الدموع في عيناها البنية ثم همست بألم قائلة..
عمر! نظر لها أخاها بلهفة وقد لمعت عيناه بحنان ثم هتف بتساؤل وحب.. انتي كويسة يا شهد؟
اومأت برأسها وهي تنظر للفراغ، تدمر كل شيئ بلحظة، عاداها القدر ولم يسمح لها أن ترى والدها لأخر مرة كأنه شخص يقصد مهاجمتها، عاودتها ذكريات طفولتها مع والدها، شرعت في البكاء بصوت عالي وعادت بظهرها للخلف وهي تتذكر كل ما مرت به، ليقترب منها اخيها ويجلس على الفراش بجوارها ثم أخذها في احضانه واخذ يربت على ظهرها بحنان، ليختلط ألمهم سويًا ويبكوا بحرقة لتختلط دموعهم ايضًا، لعلي اجتماعهم يخفف عنهم ولو قليلاً، ابتعدت عنه شهد قليلا ثم نظرت في عيناه وهي تقول برجاء..
انا عايزة عمر، عايزة جوزى اومأ محسن موافقًا ثم اجابها بهدوء حذر.. منا بعتله راجل يخبره، انتي من ساعة ما غميتي وانتي عمالة تجولي لا يا عمر، وماتسبنيش يا بابا شعرت بنغزة مؤلمة في قلبها كأنه يرفض وبشدة ذاك الكابوس، تألمت حتى وإن كان مجرد حلم، فماذا ستفعل إن اصبح حقيقة!، مؤكد ستتدمر نهائيًا. هزت رأسها وهي تقول من بين دموعها بوهن: كان كابوس، كابوس وحش اوى يا محسن اوووى.
ربت محسن على كتفها برفق ثم أردف بحزن وهو يتذكر وفاة والده.. والله انا حاسس إن كل إلى احنا فيه دة كابوس ونفسي افوج منه بجا هزت رأسها بحزن بادى على محياها دون ان ترد وظلت تنظر للكرسي ولعمها الذي كان يجلس بصمت تام كأنها تتخيله والدها، بينما كان الاخر يدور بعقله عدة تساؤلات، اهمها كيف وجد محسن شهد بهذه السرعة ومن المفترض أنه لم يجدها..!
حك ذقنه بطرف أصبعه وهو يرمق شهد التي كانت شاردة في عالم اخر بنظرات متفحصة..
بعد نصف ساعة تقريبًا دلف عمر بسرعة بإتجاه شهد، ابتعد محسن عنها ونهض ليفسح المكان لعمر الذي جلس بجوارها على الفور واحتضنها بقوة، لم تنتبه شهد لما حدث فجأة إلا عندما احتضنها زوجها، كأن قلبها عرفه على الفور، صُعق عمر من منظرها ذاك واخذ يربت على شعرها بحنان دون اى كلمة، شرعت شهد في البكاء مرة اخرى، كانت منتظرة أن تجده ويحتضنها لتبكي وتخرج كل الألم عن طريق البكاء لعلها تهدأ قليلاً، نظر محسن لعمر ثم هتف بهدوء حذر..
انت جوزها صح اومأ عمر مؤكدًا ثم وجه نظره له وأجابه بتأكيد.. ايوة طبعًا، حابب تشوف قسيمة الجواز هز رأسه نافيًا ثم نظر لعمه، نظرة بمعني ها رأيت بنفسك، كأنه قرأ في عيناه التساؤلات والغضب من عمر وأكد له انه زوجها بطريقة غير مباشرة، ثم وجه كلامه لعمه قائلاً بألم يشوبه بعض الجدية المزيفة.. ماتيجي يا عمي نروح نشوف الاجراءات إلى هتتم بخصوص ابوي وندفع المصاريف، عشان الدفن.
اومأ عمه موافقًا ولم يرفع ناظريه عن عمر وشهد، ثم خرجوا سويًا من الغرفة بهدوء بينما زاد بكاء شهد ونحيبها، ربما عمها دون ان يقصد بجملته زاد إلتهاب الجرح الذي لم يشفي بعد.. أبتعد عنها عمر قليلاً لتنظر هي في عيناه لتتفحصها، كمثلما تتأكد من عيناه أنها مازالت تعشق النظر لها ثم تابعت بوهن قائلة.. عمر، انت عمرك ما هاتبعد عني صح لا طبعًا يا حبيبي، ليه بتقولي كدة.
زفرت بقوة ونظرت ليدها وظلت تفرك بيدها لتعبر عن توترها وخوفها من ذاك الحلم ثم أجابته بخفوت ولم تنظر له قائلة.. اصلي حلمت حلم وحش اوى يا عمر، حلمت انك طلقتني لما جيت من برة.
نظر عمر لها بصدمة، هو كان يفكر أنه يجب ان لا يفكر في هند، لا يجب ان يفكر في اى امرأة اخرى غير زوجته ولكنه لم يفكر في لحظة حتى أن ينفصل عن شهد، تنهدة تنهيدة طويلة ثم اعتقد انه يحدث نفسه ولكن عَلت أحباله الصوتية ليخرج صوته قائلاً بعزم.. هند خرجت من حياتي للأبد، وبعدين انا مقدرش اعيش من غيرك يا حبيبتي.
قطبت جبينها ثم مطت شفتيها بعدم رضا ولم ترد، بينما رفع عمر حاجبه الأيسر وتعجب من عدم إندهاشها من ذكر اسم هند فأستطرد بتساؤل قائلاً.. مستغربتيش يعني من اني قولت هند ولا سألتي هي مين اصلا! إبتلعت ريقها بإزدراء ونظرت له بطرف عينها وشعرت أنها وقعت في مأزق، فما عرفته عن عمر انه يكره ان يكشف شخص عن حياته وغموضه دون رضاه، اخرجت الكلمات من بين شفتاها بصعوبة قائلة..
آآ انا قولت يعني آآ انك، انك اكيد هاتحكيلي بس بعدين اما تحب هز رأسه وهو ينظر لها بتفكير ولكنه ليس بشخص ساذج ليصدق ما تقوله وخاصةً انه اصبح يعرف شهد من دون ان تنطق.. بينما في الخارج كان محسن وعمه يسيرون سويًا، لينظر محمد لمحسن بغضب وهو يقول بحنق.. خرجتنا ليية يا محسن لم ينظر له محسن وإنما اكمل سيره بخطوات واثقة، ورد بعد صمت دام لثوانٍ فقط قائلاً بتهكم..
واحد عايز يطمن على مرته، نجعد ليهم زى العزول اكدة يا عمي كاد عمه يرد عليه وقد ازداد غضبه، فتوقف محسن عن السير ونظر له بحدة ثم أكمل بجدية وحزن قائلاً.. عمي، دة مش وجته ابوس يدك إلى فيا مكفيني مش جااادر طاقتي خلصت.
جز على اسنانه بغيظ مكبوت وصمت وظهر الغضب جليًا على وجهه، بينما كان محسن يبتسم ابتسامة ساخرة، حزينة، مكسورة، هو على يقين ان عمه لا يأبه بموت اخيه الوحيد وكل ما يهمه هي مصلحته الخاصة ومصلحة ابنه، بينما كان محمد يتنهد بضيق وهو يتذكر ابنه مصطفى، الذي لم يرد عليه سوى مرة او اثنين فقط، ولم يرد على باقي اتصالاته حتى الان ولكنه قرر، وعزم على تنفيذ ما قرره في اقرب فرصة.
في منزل رضوى، دلفت رضوى لغرفة مها مرة اخرى لتجدها على نفس حالها بل اصبحت اسوء ولم تتحرك، عضت على شفتاها السفلية وهي تفكر في حل لإخراجها من تلك الحالة المؤسفة، اغلقت الباب واقتربت منها ثم جلست بجوارها ولكن مها لم تنظر لها حتى، شهقت رضوى وهي تقول بهلع مصطنع.. يا نهار ابيض، نسيت اقولك إن سيف تعبان يا مها خالص.
لم تنجح هذه ايضًا ولم تؤثر وتهز كيان مها ولو للحظة، كأنها اقسمت ان لا تعود لطبيعتها إلا بعد ان، تنتقم! تأففت رضوى بضيق من فشلها الذريع في محاولتها لعودة مها لطبيعتها، تمنت ان تعود كما كانت حتى لو لأذيتها ولكن لا تكن كالصنم هكذا.. هزت رأسها بضيق وهي تحدث نفسها هكذا، قطع صمتهم صوت رنين هاتف رضوى معلنًا عن إتصال من عبدالرحمن أخرجت رضوى هاتفها من جيبها ثم اجابته قائلة بصوت هادئ.. السلام عليكم.
وعليكم السلام ورحمة الله، ازيك؟ بخير الحمدلله، وانت؟ بخير مادام انتي بخير، كنت بأكلمك عشان اسألك لو طنط فاضية النهاردة نيجي عشان نحدد ميعاد كل حاجة امممم هسأل ماما وأبعتلك رسالة تمام، في الانتظار تمام عايزة حاجة مني؟ لا ربنا يخليك مع السلامة سلام أغلقت وهي تتنهد بإرتياح وعلت الإبتسامة وجهها ولكن سرعان ما اختفت حينما عاودت النظر لمها الساكنة، تنحنحت قائلة بهدوء حذر..
مها، اكيد النهاردة هاتكونى موجودة لما عبدالرحمن واهله يجوا عشان نحدد اخيًرا خرجت مها عن صمتها وردت بهمس قائلة.. ماشي يا رضوى هابقي موجودة ابتسمت رضوى بسعادة لإنها استجابت لها، ربتت على كتفها بفرحة ثم نهضت متجهة لوالدتها لتخبرها.. بينما وضعت مها يدها على بطنها وهي تقول بخفوت وشراسة.. شكرًا يا رضوى، النهاردة لازم انفذ...!
في المستشفي،.
انتهي محسن ومحمد من جميع الإجراءات بالمستشفي، وكان محسن يتعامل بشكل طبيعي ولكن بداخله يحترق ولو كان له رائحة لكانت فاحت رائحة الحريق والغضب والحزن منه حتمًا، اتجهوا للغرفة التي تكمن بها شهد وكاد محمد يدلف دون ان يطرق الباب ولكن منعته يد محسن وهو ينظر له بحدة ثم طرق الباب وأذن عمر له بالدخول، ليدلفوا سويًا، كانت شهد مازالت مسطحة على الفراش بهمدان، وعمر بجانبها ممسك بيدها وهو يحاول تهدأتها بكل الطرق، تنحنح محسن بحرج قائلاً..
شهد، احنا خلصنا كل الاجراءات وهناخد الجثة للدفن عادت شهد لبكاؤها مرة اخرى ووضعت يدها على وجهها واصبحت تبكي بحرقة فما حدث ليس بالهين ابدًا وخاصة انه توفي دون ان تراه ولو لأخر مرة.. هتفت من بين شهقاتها قائلة.. ها، هاتدفنوه هنا يا محسن اومأ برأسه موافقًا وهو يرد ب: ايوة، جمب امنا، هو كان طول عمره عايز اكدة طب انا هأجي معاك.
هتف عمر الذي كان يتابع الموقف بصمت بتلك الجملة وهو ينهض موجهًا نظره لمحسن بهدوء، ليرد محسن بتلقائية.. لا مفيش داعي يا واد العم، انت خليك اطمن على مرتك هزت شهد رأسها بأعتراض شديد، فكيف ستهدأ او تجلس في مكان ولا تحضر اخر وداع لوالدها الحنون.. ثم تابعت بإصرار واضح قائلة.. مستحييييل، انا هأجي معاكوا يا محسن مش هاقعد طبعًا أكمل عمر بجدية: شهد انتي لازم ترتاحي انا هأروح وهابقي ارجع على طول.
دلف الطبيب في تلك اللحظة وهو يقول بنبرة رسمية.. ازيك دلوقتي يا مدام شهد؟ امأت شهد بهدوء ولم ترد في حين فحصها الطبيب ودون شيئًا ما في الدفتر الذي يحمله بيده، ثم نظر لشهد ليقول ما ارادت هي قوله منذ ثوانٍ.. انتي بقيتي كويسة اهو الحمدلله يا مدام شهد، تقدرى تخرجي النهاردة تنهدت تنهيدة قوية بإرتياح، فلقد حالفها الحظ هذه المرة ولم يعاندها كأنه تعويضًا عن تلك المرة..
ثم نظرت لمحسن وعمر بمعني سأذهب، انتهي الطبيب وكتب لها على خروج، ما إن خرج حتى هتفت شهد بجدية قائلة.. يلا يا محسن يادوب عشان إكرام الميت دفنه اومأ محسن ثم إتجه للخارج ونهضت شهد لتلحق به هي وعمر، بينما كان محمد يستند على عصاه وهو ينظر لهم بغيظ مكبوت، خرجوا جميعهم ولم يتبق إلا هو في الغرفة، اخرج هاتفه من جلبابه ثم اتصل برقم ما ووضع الهاتف على اذنه منتظرًا الرد، بعد دقيقة تقريبًا رد ليقول هو بغضب..
فييينك يا مصطفى دة كله، انت لازم تيجي هنا فورًا، شهد هنااا...!
ههههههه، مش قادر بجد، مش مصدق أنه شربها بالسهولة دى، دة انا كنت على اعصابي والله يا بوص هتف فارس بتلك الجملة وهو يقهقه بصوت عالي وبجواره حاتم الذي كان يجلس في الحديقة هو وفارس ويدخن بكبرياء كعادته، إبتسم ابتسامة خبيثة ثم ابعد السيجار عنه قليلاً وهو يقول بغرور.. طول ما انت ماشي ورايا هاتكسب.
هز فارس رأسه وهو ينظر له بخبث، فهو حقًا الان في احسن حالاته، فلقد انتقم اشد انتقام ونفذ ما اراده منذ سنوات.. ثم اقترب بكرسيه من حاتم وتابع بتساؤل قائلاً.. بس ازاى عرفت يا بوص؟ نظر له حاتم بنصف عين ثم وضع السيجار في فمه ونظر للفراغ، في حين كان فارس يتابعه بنظراته بتركيز كأنه سيخبره بأهم شيئ في حياته، وهذا ما كان يشعر به فارس بالفعل الان.. استطرد بصوت قاتم قائلًا وهو يشير بيده.. ودة هايهمك ف اية بقا!؟
رفع فارس كتفه ثم اجابه بلامبالاة مصطنعة قائلاً.. ولا حاجة، فضول مش اكتر يا بوص هز رأسه ثم اطفئ سيجاره واقترب من أذن فارس وقال بهدوء.. بص يا سيدى انا... اخبره ما كان يود فارس معرفته وبشدة، لتتسع إبتسامته تدريجيًا وهو يسمع ما يقصه عليه حاتم بخبث...!
في منزل رضوى،.
اخبرت رضوى والدتها برغبة عبدالرحمن بالزيارة هو واهله لتحديد موعد الخطبة ورحبت والدتها بتلك الزيارة واخبرت رضوى عبدالرحمن بالموافقة ليأتي، كانت رضوى في غرفتها ترتدى ملابسها وتنظر لنفسها في المرآة، لم تكن جذابة للغاية ولكنها كانت جميلة ورقيقة بملامحها البريئة دون اى مساحيق تجميل، فهذه عادتها دائمًا، لا تضع اى شيئ سوى ملمع شفاه، سمعت طرقات الباب فعلمت انهم قد وصلوا، ارتبكت واصبح قلبها في قفصها يدق بسرعة وبعنف، وضعت يدها على صدرها لتهدأ من نفسها قليلاً، لتدلف والدتها قائلة بهدوء..
تعالي يا رضوى الناس جم اومأت رضوى موافقة واقتربت منها ثم خرجوا سويًا من الغرفة بعدما اغلقوا الباب خلفهم بهدوء، خرجوا ثم سلمت رضوى على الجميع باليد بترحاب معادا عبدالرحمن بالكلام فقط.. جلست بجانب والدتها وبدأ والد عبدالرحمن الكلام قائلاً بهدوء حذر.. عايزين نحدد ميعاد الخطوبة بقا يا حجة اه طبعًا، انتم اية إلى يناسبكم عشان نشوف يناسبنا ولا لا هتف عبدالرحمن بحماس قائلاً..
اية رائيكوا لو نخليه الخميس الجاى ويكون خطوبة وكتب كتاب إتسعت حدقة عين رضوى بصدمة، لم تتوقع ابدًا ان يطلب هذا الطلب، زادت دقَات قلبها السريعة كأنه يود ان يخرج ليحتضن عبدالرحمن بإشتياق، اجبرتها عيناها على النظر له لأول مرة في تلك المقابلة، لقد كان مظهره جذاب حقًا، اخفضت بصرها بسرعة قبل ان يلاحظها اى شخص بينما اردفت والدتها بعد صمت قائلة بإبتسامة.. مفيش مانع يابني موافقة.
بينما كان والد عبدالرحمن ينظر له بلوم ولكن بسعادة، لأول مرة منذ سنتان يشعر بسعادة عبدالرحمن وحماسة للزواج لهذه الدرجة، تنهد بإرتياح لأنه تأكد الان ان عبدالرحمن لم يكن مجبور على تلك الزيجة ابدًا، حددوا ميعاد الخطبة وكتب الكتاب بعد ثلاث ايام، وسط نظرات عبدالرحمن السعيدة والمتحمسة لأن تصبح رضوى زوجته شرعًا ويستطيع ان يبوح بما في صدره الذي لم يستطيع اخبارها به سابقًا دون تأنيب ضمير الان..
تم الاتفاق على كل شيئ وافاق عبدالرحمن على جملة رضوى التي قالتها بهدوء.. لا بلاش نعيش معاكوا يا طنط كأن جملة رضوى كانت مثل الصخرة التي دمرت موجه الفرحة التي كان بها عبدالرحمن لينهض فجأة من كرسيه وقد تبدل حاله تمامًا، واختفت نظرات السعادة من عيناه تجاه رضوى ليحل محلها الغضب الجامح، اقترب من رضوى وسط نظرات الجميع المندهشة ثم امسكها من يدها واصبح يهزها بعنف وهو يصرخ بها قائلاً..
لاااا، مش بمزاجك سامعة، مش هاسمحلك تعملي كل حاجة على مزاجك تاني...!
رواية مواجهة الأسد الجزء الأول للكاتبة رحمة سيد الفصل الرابع والثلاثون
صُعقت رضوى من رده وظلت محدقة به بصدمة بالغة بينما ظل هو ممسك بيدها وعيناه تلمعان بغضب شديد، تلقلقت.
الدموع في عيناها ولكن لم تظهر ضعفها، ساد صمت عجيب في المكان وألجمت الصدمة لسان الجميع، استدركت رضوى نفسها وكأنها عادت لوعيها الان، فأبعدت يديه بقوة عنها وركضت للداخل وهي تمنع دموعها من الهطول بصعوبة، هنا هب والد عبد الرحمن واقفًا لينقذ ماتبقي من امل لأكمال هذه الزيجة ثم إتجه لعبد الرحمن الذي كان حاله لم يتغير عن قليل ثم امسكه من ذراعه بقوة وجز على اسنانه بغيظ من فعلة ابنه، هو يعلم انه شيئ لا ارادى لا يستطيع التحكم فيه ولكنه يريد إتمام هذه الزيجة بأى شكل من الاشكال، سحبه خلفه وإتجه للخارج تتبعه والدة عبدالرحمن بصدمة ثم التفت لأخر مرة وهو يتنحنح بحرج قائلاً..
انا اسف جدًا عن إلى حصل، بس انتوا اكيد عارفين ان دة غصب عنه ابعد عبدالرحمن يده ليصيح بغضب قائلاً.. انت بتعتذر على اية، دة إلى كان مفروض يحصل رمقه والدة بنظرات حادة اسكتته ليكمل هو بصوت أجش قائلاً.. اكيد هانيجي تاني، وبأعتذر مرة تانية اومأت والدة رضوى بهدوء يشبه هدوء ما قبل العاصفة، ثم نهضت وإتجهت لغرفة رضوى وما ان فتحت الباب حتى اغلقته وهو تزمجر ف رضوى بغضب عارم قائلة..
هو اية دة إلى غصب عنه! وازاى تدخلي فجأة كدة كانت رضوى تجلس على فراشها وتضم ركبتيها إلى صدرها تحدج الفراغ بنظرات غاضبة، حزينة، أفاقت من شرودها على صوت والدتها العالي وهي تقترب منها، وجهت نظرها لها ثم هتفت بهدوء حذر قائلة.. في اية يا ماما إلى حصل لدة كله! مانتيش عارفة اية إلى حصل، هو اية دة إلى غصب عنه يا بت انطقي.
لم ترغب رضوى في إخبار والدتها عن مرض عبدالرحمن، لإنها على علم ان والدتها سترفض حتمًا، والان رضوى هي من ترغب في إتمام هذه الزيجة، ربما لأنها، احبته، نعم احبته، استطاع عبدالرحمن في اخر فترة إثبات نفسه داخل قلبها الحزين، وقد اعلنت الاستسلام واخيرًا.. توترت على الفور ولم تدرى ماذا تجيبها، فأجابتها بأرتباك لم تستطع اخفاؤه.. آآ ما، ماتروحي تسأليه يا امي، وانا آآ وانا يعني ايش عرفني.
جزت والدتها على أسنانها بغيظ شديد ثم امسكتها من ذراعها بقسوة واكملت بنبرة غليظة قائلة.. قسمًا برب العزة لو ماقولتي كل حاجة دلوقتي لهتشوفي مني وش عمرك ماشوفتيه يابنت بطني تنهدت رضوى تنهيدة حارة تحمل الكثير بداخلها ثم نظرت لها وتابعت بنفاذ صبر قائلة.. عنده انفصام في الشخصية يا ماما ومكنش عاوز يتعالج ولسة بادئ علاج، ارتحتي كدة يا أمي.
شهقت والدتها بصدمة وإتسعت مقلتاها وهي واضعة يدها على فاهها بحركة مباغته، كانت رضوى تنظر لها بهدوء شديد لأنها كانت متوقعة رد فعلها هذا.. هزت والدتها بقوة وهي تصيح فيها بحدة قائلة.. يعني اية، هاتتجوزى واحد مجنون يا رضوى، دى اخرة كل الصبر دة تمالكت رضوى نفسها بصعوبة حتى لا تخطأ في حق والدتها ثم قالت بهدوء حذر.. عبدالرحمن مش مجنون يا أمي، ماهو ادامك طبيعي بس هو مرض نفسي وكلها شوية ويخف ويبقي طبيعي خالص.
هزت والدتها رأسها نافية واستطردت بصوت قاتم قائلة.. ابدًا، مستحيل، دة لو اخر واحد في الدنيا مش هاتتجوزى واحد مجنون، شوفتي ادامنا عمل اية، امال اما تكونوا لوحدكوا هايعمل اية عرفت الدموع طريقها لأعين رضوى وشرعت في البكاء بحدة، كانت تشعر انها مفتقدة والدها بشدة في هذه اللحظة، شعرت انها سلعة رخيصة تشترى وتباع وقت ما تشاء، ولكنها لن تستسلم ابدًا.. نهضت من الفراش واردفت من بين شهقاتها بألم قائلة..
حرام عليكي يا أمي، هو انا عروسة لعبة، مرة توافقي وتجبريني اوافق عليه ودلوقتي بردو بتجبريني ابعد عنه، حراااام بقا سيبيني اختار مرة، دة شريك حياتي انااااا مش انتي فجأة نهضت والدتها ورفعت يدها لتنزل على وجه رضوى لتصفعها بقوة، وضعت رضوى يدها على خدها وظلت تنظر لوالدتها بقهر، بينما كانت والدتها تحدجها بنظرات قاسية، جامدة، خالية من اى مشاعر حانية، لتستأنف حديثها المميت بالنسبة لرضوى قائلة..
دة عشان تتكلمي مع امك كويس بعد كدة، وانا قولت إلى عندى وخلاص استدارت واعطتها ظهرها متجهه للخارج، تاركة رضوى تهوى على الفراش وتبكي بحرارة، وبداخلها يشتعل من كثرة الحزن والألم، ظلت تحدث نفسها بغلب، لماذا يحدث معها كل هذا، لماذا دائمًا عندما تتعلق بأى شخص تضطر للإبتعداد عنه واول شخص كان، والدها الراحل.
تم انهاء كل الاجراءات الخاصة بشهد ووالدها بالمستشفي، واستلموا جثة والدها الراحل وشهد لا تتوقف عن البكاء او النحيب، يتجسد امامها كل ذكرياتها مع والدها ورغم محاولات محسن وعمر العديدة إلا انها لم تستطيع ان تهدأ ولو لدقائق، دُفن والدها بجوار قبر زوجته، شعرت شهد انهم يضعون التراب فوقها هي وليس والدها، شعرت ان قلبها يكاد يتمزق من شدة ألمه، ان قطعة من روحها يضعونها تحت التراب، وانتهي الجميع ورحلوا ولم يتبقي سوى شهد ومحسن وعمر وعمهم، جلست امام قبر والدها تبكي، وعمر بجانبها، ولكنه اقتنع انه لن يستطيع ان يعوضها عن جزء بسيط حتى من والدها، كان يربت على كتفها بهدوء وحنان ومحسن بجانبها من الجهه الاخرى يود البكاء مثلها، ولكنه يمنع نفسه بصعوبة لعله يهون عليها ويكن لها السند ولو قليلاً، اقترب عمر منها اكثر واخذها في احضانه، لم يعد يتحمل بكاؤها اكثر من ذلك، كأن سكاكين باردة تقطع بداخله، علت شهقات شهد اكثر في حضنه، استسلم محسن وراوده شعور الرغبة في الانفراد بنفسه، ثم نهض فورًا ومسح طرف عيناه وهو يقول بجمود ظاهرى..
انا هأمشي نهضت شهد بسرعة وظلت تبكي ثم تمسكت بيده بقوة كأنها تخشي فقدانه ثم هتفت بوهن وألم قائلة.. هاتسيبني انت كمان يا محسن هز رأسه نافيًا بسرعة ومسح دموعها ببطئ وهو ينظر إلى عيناها التي اصبحت حمراء كالدماء من كثرة البكاء وشعر انه على قرب الانهيار الان، اجابها بحنان قائلة.. لا يا حبيبتي، انا ماجدرش اسيبك ابدًا، انا بس محتاج ارتاح شوية وهاجي ليكي في بيتك ان شاء الله.
هزت رأسها موافقة بحزن، ليستدير محسن ويتجه لخارج المقابر ويلقي نظره اخيرة على عمه الذي كان يقف وهو يرمقهم بنظرات باردة ولم تهتز له شعرة واحدة، كأن من توفي لم يكن شقيقه من لحمه ودمه، نظر لها وسار بهدوء على عكس ما بداخله من عواصف مدمرة.. وضع عمر يده على كتفي شهد ونظر لها بحنان وهو يهز رأسه للخارج بمعني هيا لتومأ شهد بكسرة ويتجهوا سويًا للخارج تاركين محمد يفكر بخبث..
في منزل رضوى،.
ارتدت مها اى ملابس والتي كانت عبارة عن بنطلون جينز ازرق وبلوزة من اللون الاحمر الغامق وصففت شعرها بسرعة ولم تهندم نفسها كعادتها دائمًا ولم تضع اى من مساحيق تجميل، فقط وضعت كريم لتخفي الهالات السوداء التي تكونت تحت عيناها مؤخرًا، خرجت من غرفتها واغلقت الباب تاركها ابنها الصغير ينام في سلام بعد احتضنته وتحدث معه بعد ايام طويلة منقطعة فيها عنه، خرجت لتجد والدتها تجلس على الاريكة وملامحها لا يبدو منها الخير ابدًا، إبتلعت ريقها بإزدراء وقد عزمت على تلك المواجهة ثم تقدمت واقتربت من والدتها ثم تنحنحت قائلة بهدوء حذر..
ماما انا نازلة لواحدة صاحبتي نظرت لها والدتها بطرف عينيها ثم حك ذقنها بأصبعها ثم اجابتها بأستنكار قائلة.. صاحبتك!، يعني قعدتي دة كله قافلة ع نفسك وعاملة كل دة ويوم ماتطلعي تقولي انا نازلة لصاحبتي تأففت مها بضيق ثم تابعت بأصرار قائلة.. ايوة يا ماما، ولا عايزاني اتحبس في البيت يعني؟ اخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته على مهل وتابعت بصوت اجش قائلة.. روحي يا مها بس ياريت ما تتأخريش.
اومأت مها وإتجهت للخارج بسرعة قبل ان تغير والدتها رأيها ثم خرجت من المنزل وتنفست الصعداء، خرجت من البناية بأكملها واستقلت تاكسي متجهة، لمنزل حسن.. ركبت سيارة الاجرة في الخلف واخبرت السائق بعنوان منزل حسن، عادت برأسها للخلف وهي تتذكر كل ما مرت به منذ ان عرفت حسن، وفكرة الأنتقام ولهيبة يزدادوا بداخلها اكثر وهي تتذكر عبارات حسن الكاذبة، كان في عينيها اصرار غريب على انتقامها منه، وقتله.
على الرغم من انها تعلم جيدًا عقوبتها ولكن الان كل ما يهمها هو ان تعاقب من جعلها تعاني كل هذه الايام وخدعها، وجرح انوثتها بهذه الطريقة، لم تفكر في انها ستجعل طفلها القادم يتيم قبل ان يرى والده حتى، لم تفكر انه سيولد ليعرف انه ابن غير شرعي والده مات على يده والدته..! انتبهت لصوت السائق العالي قائلاً بجدية.. يلا يا مدام وصلنا العنوان إلى حضرتك قولتي عليه.
نظرت مها لتجد نفسها امام البناية التي يقطن بها حسن، اومأت موافقة ثم اخرجت الاموال من حقيبتها واعطتها للسائق ثم ترجلت من السيارة بخطوات هادئة، إتجهت للأعلي ووصلت امام شقة حسن، فتحت حقيبتها لتنظر بداخلها وترى السكين الذي وضعته والمعطف الابيض، طرقت الباب ولكن وجدته مفتوح، عقدت حاجبيها بتعجب فهذه ليست عادة حسن، دلفت للداخل ومن ثم اغلقت الباب ووزعت انظارها لتتسع ابتسامتها تدريجيًا وهي ترى...
في سيارة عمر، كانت شهد مع عمر في السيارة الخاصة به، كان عمر يسير وهو ممسك بيد شهد ويضعها على قدمه ويختطف نظرات حانية لها، كان يصعب عليه ان يراها بتلك الحالة، تنهد بضيق وحزن شديد على زهرته الجميلة التي اصبحت ذابلة مؤخرًا، كان يشعر بكل ما تعانيه فهو كان مثلها واكثر عندما قُتلت والدته امام عينه.. هتف عمر بحنان يشوبه بعض الحزن على حالها قائلاً..
هاتفضلي كدة لحد امتي، الحزن في القلب يا شهدى، اكيد والدك زعلان جدًا وهو شايفك كدة لم يتلقي منها اى اجابه، فقط صامته تنظر للأمام دون اى رد فعل، كأنها اصبحت جثه هامدة، لا تسمع لا تتحدث ليس لها صلة بالعالم الخارجي، تأفف عمر بضيق ونظر امامه لتتسع حدقة عيناه بصدمة مما يرى، اوقف السيارة فجأة لدرجة ان شهد كادت تصطدم بالزجاج، ابعد حزام الأمان عنه وترجل من سيارته وركض بسرعة بإتجاه...
في منزل حاتم، يقف كلاً من فارس وحاتم في الحديقة الواسعة الخضراء التي تتشكل الزهور بها بأشكال مبهرة، تسكر روح كل من ينظر لها، والملحقة بڤيلا حاتم، وهم ينظرون على بعض الرجال الذين ينقلون البضائع من الڤيلا إلى احدى السيارات بالخارج، وكان حاتم ينظر لهم بترقب شديد وهو يدخن سيحارته الفاخرة، بجانبه فارس وعيناه تلمعان بخبث، نظر لحاتم ثم قال بحماس.. الثفقة دى هتنقلنا نقلة جااامدة ف السوق يا ريس.
اومأ حاتم بغرور وهو يبتسم ابتسامة هادئة ولكن خبيثة، تنهد فارس وهو ينظر امامه ثم تابع بحنق قائلاً.. اقولك حاجة يا ريس، انا لسة غليلي ماتشافاش من الواد إلى اسمه عمر دة، بفكر اخطف البت دى، اهي حلوة وهاتنفعنا بردو نظر حاتم له بطرف عينيه ثم ابعد السيجاره عن فمه ورفع حاجبه الأيسر واجابه بأستنكار قائلاً.. لا والله، ماتشافاش!، انت ناسي انت عملت فيه اية يا فارس.
هز فارس رأسه نافيًا ثم ارتسمت على ثغره ابتسامة شيطانية وهو يتذكر ما فعله بعمر مؤخرًا، ثم نظر لحاتم وهو يتذكر شهد ويتمعن النظر لها في خياله ثم اردف بشهوة قائلاً.. بس البت حلووة اووى يا ريس رسم حاتم الجدية على وجهه وإستدار متجهًا للداخل دون ان يرد عليه، هو يفصل ويعرف شخصية فارس جيدًا مثل الام التي تعرف طفلها، لن يستسلم فارس إلا بعد ان يأخذ كل شيئ بمتلكه عمر..
ظل فارس يسير وراه وهو يناديه ليقف حاتم ثم يشير له بيده قائلاً بحدة مصطنعة.. كفاية اوى إلى انت عملته وماتنساش ان عمر راجل من رجالتي وايدى اليمين انا عملت كدة قرصة ودن له مش اكتر جز فارس على اسنانه بغيظ مكبوت كالبركان الذي يكاد ينفجر ثم استطرد بغضب وصياح قائلاً.. كل دة عشان خليناه يفكر إن هند كانت عايشة...!